Wednesday, December 5, 2007

التعددية في الإسلام3

* التسامح مع غير المسلم:
خلق الله الناس على أديان مختلفة ويجب أن يسع أهل الأديان بعضهم بعضاً. لا يجبر أناس على أن يتركوا دينهم ليعتنقوا ديناً آخر، لم يأت الإسلام بهذا، لأنه ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ ()، ولذلك يحث الإسلام المسلم أن يسع المخالفين، لا أن يقهرهم على أن يتبعوا دينا واحدا، سواء كان ذلك الدين دينه هو أو دين غيره. كما لا يسمح الإسلام لأحد أن يقهر معتنقيه على ترك دينهم أو أن يمنعهم من طاعة ربهم. هذه التعددية الدينية هي التي قررها الإسلام منذ العهد المكي وفي العهد المدني أيضا. نجد أن هناك سورة في القرآن جمعت بين أمرين قد يظنهما بعض الناس متناقضين، الاعتزاز بالدين إلى أقصى حد والتسامح مع المخالف إلى أقصى حد، هذه السورة هي سورة الكافرون. السورة الوحيدة التي خاطب الله فيها غير المسلمين في حياتهم الدنيا بعنوان الكافرين، فمن عادة القرآن أن يخاطب غير المسلم دائماً بـ (يا أيها الناس، يا بني آدم، يا عبادي، يا أهل الكتاب...) لكن ورد في هذه السورة ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ (). ويعود سبب نزولها لقصة مساومة المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. كانوا يساومون النبي ويفاوضونه على أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة، وهذه المساومات أراد القرآن أن يقطعها بقرار حاسم واضح جلي، ولذلك قال ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ ()، هذا التكرار والتأكيد يتبعه في نهاية السورة هذا التسامح العجيب ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (). * العقائد اختيار محض: قد يظن بعض الناس أنه ليس هناك دين غير الإسلام، لا، بل هناك أديان أخرى، والواقع يؤكد هذا المعنى، فأهل الكتاب مثلا لهم دينهم، ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ﴾ ()، هذه الأديان الأخرى وسعها الإسلام، وعاشت في ظلاله قروناً والمسلمون آنذاك بفتوحاتهم وتوسعاتهم كانوا في مرحلة قوة وكانوا هم قادة العالم ولهم القوة الأولى في الدنيا، كانوا يستطيعون أن يفرضوا على الناس دينهم فرضا ويكرهونهم على الإسلام كرها، لم يحدث ذلك أبداً ()، وإن حدث فالفعل مردود على فاعله، لأن الإسلام لا يقبل إيماناً فيه شبهة إكراه، لابد للإيمان أن يكون اختياراً محضاً، ولذلك لم يجبر غير المسلمين في وقت من الأوقات على دخول هذا الدين، وهذا ما قرره بعض المستشرقين الغربيين أنفسهم مثل توماس أرنولد () بقوله: "لم يحدث في تاريخ المسلمين أن جماعة أجبرت على أن تدخل في الإسلام إكراه"، تركوا هؤلاء وعاشوا في بلاد المسلمين أهل ذمة لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، لهم كنائسهم ولهم بيعهم ولهم نواقيسهم ولهم أزياؤهم...، ما أجبر أحد على أن يغير زيه ليكون مثل المسلمين، بل بالعكس، ما دام الإسلام قد تركه لدينه وضمن له حرية الاعتقاد فمن حقه أن يعيش بدينه وأن يقيم شعائره وأن يؤدي واجباته وأن يرعى حقوقه، وهذا من ثمرات إقرار التعدد واحترام مبدأ التسامح. إن التعددية الدينية تحتاج إلى التسامح، وقد يتساءل البعض: كيف يتسامح الإنسان وهو يعتقد أن دينه هو الحق وأن دين غيره هو الباطل؟ وإذا كان يعتقد هذا كيف يتسامح مع غيره ؟ لعل الإجابة تكمن في أن هذا الأمر يعد من روائع ما جاء به الدين الحنيف، أنه برغم اعتزاز معتنقه بإسلامه ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ ()، رغم اعتزازه بالإسلام ومباهاته بالإسلام ومغالاته بالاعتزاز بهذا الدين فإنه قد غرس فيه من العقائد والمفاهيم والأفكار ما يجعله يتعايش بتسامح منقطع النظير مع المخالفين له. من هذه المفاهيم والأفكار الأساسية أنه بين أن اختلاف الناس واقع بمشيئة وإرادة الله الخالق، الله هو الذي أراد الناس كذلك ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ ()، هكذا خلق الله الناس وأن هذا واقع بمشيئته، ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، وما دام هذا بمشيئة الله التي لا تنفصل عن حكمته - من أسماء الله وصفاته المذكورة في القرآن: اسم الحكيم - فمن العبث أن يقاوم الإنسان مشيئة الله، لأن مشيئة خالقه وبارئه هي النافذة وهي الغالبة وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن (). الأمر الثاني، أن الإسلام يكرم الإنسان من حيث هو إنسان، الإنسان من حيث آدميته مكرم في الدين الإسلامي، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ ()، الله أوجد الإنسان وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة وجعله في الأرض خليفة، فبذلك يصير الإنسان هو محور هذا الوجود، كرمه الله بغض النظر عن لون بشرته أو شعره أو عينيه، بل بغض النظر عن دينه أي دين هو معتنقه. جاء في كتابي البخاري ومسلم () أن أناسا مروا بجنازة إنسان ميت فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم واقفا، فقالوا: يا رسول الله إنها جنازة يهودي، هل تقوم احتراماً لها؟ فقال النبي: (أليست نفسا؟). أليست نفسا بشرية؟ فما أروع الموقف وما أروع التعليم.. النفس البشرية تكرّم لأنها نفس بقطع النظر عن دينها. وهكذا، النفس الإنسانية مكرمة معصومة مصونة، ﴿أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ ().. هذا هو الأمر الثاني الذي يعالج به الإسلام التعصب ويسعى لمحوه من نفسية الفرد ليغرس فيها التسامح والأفق الواسع. الأمر الثالث، هو أن الإسلام يأمر بالعدل - من أسماء الله وصفاته المذكورة في القرآن: اسم العدل - مع الناس جميعاً، لا وبل مع كل الكائنات وفي كل حالة وهيئة: مع المحب أو غير المحب، مع القريب أو البعيد، مع الصديق أو العدو، مع المسالم أو المحارب، مع المسلم أو غير المسلم، فالعدل للناس جميعاً بدون استثناء، ولذلك تجد القرآن يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ ()، هذا عدل مع المحب أو القريب، ويقول في آية أخرى في شأن البغيض أو البعيد ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا﴾ ()، –لا يحملنكم شنآنهم أي شدة بغضهم لكم أو شدة بغضكم لهم، لا يحملنكم هذا على ألا تعدلوا– ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ()، لأن العدل مع الجميع وللجميع، وبهذا يغرس الإسلام روح التسامح مع المخالفين، بلا حيف ولا تضييق، يعاملهم بالعدل ويعاملهم بالرحمة ويعاملهم بالقسطاس المستقيم، بما أن الأرض تسع الجميع
. *
الخاتمة:
توقفنا في هذه الورقة عند بعض تجليات التعددية في الإسلام كما تبرز من خلال الآيات القرآنية، ولا نحسب أننا أتينا عليها جميعا، لكننا ركزنا على أهمها من وجهة نظرنا، فالموضوع طويل ويحتاج إلى كتابات ممتدة وعميقة ومتأنية تقرب من تحديد معالم قضية التعدد وذلك بتوفر عنصر أساسي، ألا وهو ضرورة قراءة كل الآيات القرآنية التي لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بمسألة الاختلاف. يمكن القول بأن المنظور الإسلامي، خصوصا بمصدره الأساسي )القرآن(، يقر التعددية بكل صورها وألوانها ويبين للمسلمين وغير المسلمين أن الحياة تتسع للموافق والمخالف. ونستطيع أن نخلص بأن الاختلاف حقيقة كونية وفريضة شرعية أقرها الإسلام. فإذا وصلنا إلى هذه النتيجة أيقنا أن الذين يتحدثون عن زوال هذا الاختلاف أو نفي وجوده أصلا وعن اجتماع الناس على رأي واحد غير منصوص عليه بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وهو الذي يمثل ثوابت الإسلام وأركانه، كلامهم يحتاج إلى نظر حيث يصعب إثباته أو تطبيقه، وهو ما لم يحدث حتى في عهد أصحاب النبي الذين اختلفوا والرسول بينهم يتنزل عليه الوحي. فالإنسان لا يمل من هذا الاختلاف سواء كان في أمور شرعية أو أمور حياتية صرفة، ما دام ذلك بعيدا عن التنازع المفضي إلى التفرقة والشقاق والبغضاء والبغي. بل من المهم أن يكون هذا الاختلاف منهج حياة يطبقه الزوج والزوجة في بيتهما مع أولادهما وتطبقه المؤسسات على اختلافها وتنوعها بداية من الأسرة، النواة الأولى لبناء المجتمع، وصولا إلى مؤسسة الدولة أو مجموعة الدول أو العالم بأسره، وذلك لتوطيد قيم الحوار والتسامح اللذان يعدان من أرقى الروابط السامية للاجتماع البشري
.
* مراد الرويسي: باحث تونسي (دكتوراه في علم الاجتماع- كندا)

No comments: