Wednesday, May 21, 2008

مفهوم الحرية



مفهوم الحرية في الإسلام


سأبدأ حديثي بالمقدمات الآتية
>>>>>

أولاً -
ثمة أمور عندي غير قابلة للنقاش، منها الإيمان. فالإيمان بالله عندي تسليم وأنا مسلّم بوجود الله واليوم الآخر. وهذه مسلّمة. والمسلّمة هي أمر لا يمكن البرهان عليه علميا، كما لا يمكن دحضه علميا. ولهذا لا يجوز للملحد المنكر لوجود الله أن يقول: أنا ملحد لأن الإلحاد موقف علمي، ولا يجوز للمؤمن بوجود الله في المقابل أن يقول: أنا مؤمن لأن الإيمان موقف علمي. وعندي أن الإلحاد أو الإسلام خيار يختاره الشخص بنفسه ولنفسه. وغير قابل لأن يكون موقفاً إيديولوجياً لقيادة دولة أو مجتمع وفي هذا الخيار أنا من المسلمين
. ثانيا -
الإيمان بأن محمدا عبد الله ورسوله، وبأن الكتاب الذي نزل عليه وحي موحى من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس. وهذا عندي أيضا إيمان تصديق أنا به مؤمن كشأن إيمان التسليم الذي أنا به مسلم. وبهذا أنا من المؤمنين أتباع الرسالة المحمدية
ثالثا-
الكتاب الموحى لا يعتبر دليلا علميا، بل هو دليل إيماني. وعلى اتباع الرسالة المحمدية تقديم الدليل العلمي على صدقيته من خارجه. ولو كان القرآن دليلا علميا، لكفى أن نقول لأي إنسان قال الله تعالى كذا وكذا فيقبله. ومن هنا فان على اتباع الرسالة المحمدية عندما يخاطبون العالم أن يقدموا الدليل على صدقية ما ورد في المصحف من خارجه وليس منه. فالعقل كالمظلة لا يعمل إلا مفتوحا، فإذا أغلق توقف عن العمل، وتسبب في قتل صاحبه. وعلينا أن نفتح عقولنا حتى لا نموت. لكن الثقافة العربية الإسلامية الحالية ثقافة تقليدية تراثية نفتح الكتب والتلفزيونات والبرامج الثقافية، فنجد الثقافة العربية الإسلامية تعيد إنتاج نفسها، وتكرر نفسها. لماذا؟ لأنها ثقافة تقوم على القياس ولا تقوم على الإبداع، ونحن نحتاج إلى إبداع وليس إلى قياس. وهي بهذا الآن عاجزة عن إنتاج المعرفة.
نأتي الآن إلى المفاهيم والقيم
.
القيمة الأولى هي الحرية،
والقيمة الثانية هي العدالة
.
هاتان القيمتان كامنتان وراء كل الثورات الكبرى في العالم، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية. فحتى في الثورات ذات الجانب الدنيوي نجد هاتين القيمتين الحرية والعدالة. ثورة أكتوبر الشيوعية قامت من اجل العدالة قبل أن تقوم من اجل الحرية، وأعلنت صراحة أنها ديكتاتورية. وثورة الزنج قامت من اجل الحرية قبل أن تقوم من اجل العدالة. وهناك ثورات قامت من اجل الاثنتين معا. من الناحية النظرية، أين نجد مفاهيم الحرية والعدالة في تاريخنا العربي الإسلامي، وأين نرى هذين المفهومين في كتاب الله الموحى وفي سنة نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم). وكيف مورس هذان المفهومان في تاريخنا العربي الإسلامي
الحرية حتى هذه الساعة وعلى مر عصور التاريخ ليس لها وجود في الوعي الجمعي العربي والإسلامي.
هناك سببان
:
الأول معرفي بحت، والثاني سياسي. فالسبب المعرفي هو أن كلمة الحرية لم ترد في كتاب الله إطلاقاً، بل كل ما ورد في كتاب الله عن الحرية هو أنها ضد الرق. فقد ورد مصطلح (تحرير رقبة) خمس مرات في سور النساء والمائدة والمجادلة، وورد في سورة البقرة (178) مرة واحدة (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد). إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }آل عمران35 وما عدا ذلك فلا نجد لكلمة الحرية ومشتقاتها أي وجود في التنزيل الحكيم وإذا انتقلنا إلى الحديث النبوي فنجد فيه كلمة العتق وهو معنى مقابل للرق، ولا نجد أي شيء عن الحرية، بل نجد فيه عكس ذلك كحديث حذيفة بن اليمان الذي يقول في آخره (اسمع وأطع الأمير ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك) (مسلم 3435 – )،
وقوله: (اسمعوا وأطيعوا ولو ولّيَ عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) (البخاري 7142) وقوله (من بدّل دينه فاقتلوه) (البخاري 6411 – )
وقوله (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرةٍ عليك) (مسلم 1836) وذلك يتعارض عمودياً مع حرية الاختيار
. والأدبيات الإسلامية التراثية وضعت طاعة أولي الأمر مع طاعة الله والرسول.
وأبرزت مفهوماً تاريخياً مشوهاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهكذا نجد أن الجانب المعرفي للحرية مفقود في الأدبيات مما يؤكد أن الحرية كقيمة ضعيفة في الوجدان العربي الإسلامي، هذا إذا كانت موجودة في الأصل. وهذا يؤكد أننا بحاجة إلى إبداع نظري حديث لتأصيل الحرية في هذا الوجدان، لأن الحرية في أدبياتنا التراثية لم ترد إلا بمعناها ضد الرق فقط، ولم تتحدث أبداً عن الحريات الاجتماعية والسياسية وما شابه ذلك. وهو السبب الأول الذي تم فيه ترسيخ مفاهيم الاستبداد ، والمؤسسة الوحيدة التي
وصلتنا سالمة تاريخياً هي مؤسسة الاستبداد وعلى رأسها الاستبداد السياسي (فرعون) يتبعها مؤسسة الاستبداد الديني (هامان)
أما العدالة فلها وضع آخر
فقد ورد الظلم مع مشتقاته في كتاب الله أكثر من ثلاثمائة مرة. والعدل الذي هو ضد الظلم (ويعرف الظلم بأنه وضع الشيء في غير محله) فهو موجود بشدة في الوجدان العربي الإسلامي. وإذا قيل عن إنسان انه عادل منصف أعجبنا ولم نسأل عن القيم الأخرى فيه. حتى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين استعمل لفظ الحرية في موقع المساواة والعدالة حين قال عبارته المشهورة في حادثة القبطي مع ابن عمرو بن العاص "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا". قد يقول قائل: انه يذكر الاستعباد والأحرار. أقول: نعم، لكنه لم يكن يعني الرق ونقيضه. كان لايعني العدل في المساواة بين العبد والحر، بل المساواة بين الحر والحر. والدليل أن الرق كان نظاما متبعا أيام عمر، وكان العبد يباع ويشترى ويؤجَّر، ولم يفعل عمر شيئا من اجل إلغائه. ولو كان يعني بعبارته الحرية لفعل شيئاً من اجل الرق، لكنه لم يتدخل. ولكن ما الذي حصل بعدها؟ الذي حصل أننا من اجل العدالة قبلنا بعصا عمر، ومات عمر، وبقيت العصا. لا بل كبرت وغلظت. وصرنا نقرأ عن الرشيد أو المأمون انه كان ينزل متنكراً ليتفقد أحوال الرعية، فنمدحه ونترحّم عليه دون أن نسأل كم من المساجين كان في سجونه. صرنا نمدح الحجاج لأنه نقّط القرآن، وننسى انه كان في سجونه حين مات – بحسب رواية الأصمعي – اكثر من 66 ألف سجين. قبلنا ذلك كله لأن مفهوم العدالة هو المسيطر على رؤوسنا، قبلناه إلى حد أننا اخترعنا مفهوما جديدا هو مفهوم (المستبد العادل)، ومع ذلك كان هناك تجاوز للعدالة. فنحن حين ننظر في الإسلام التاريخي وفي ادبياته الفقهية التطبيقية، نجد أن مفهوم العدالة قد حل محله مفهوم المستبد العادل، وان الحاكم لا يعزل وإن جار أو ظلم. ولا يعزل حتى إن فسق أو أصيب بالجنون، لا يعزل ويحكم مدى الحياة. هكذا تبدو الحرية والعدالة في وعينا الجمعي وفي الكتب التي ما زالت تطبع حتى اليوم ونقبلها. ما زلنا نصفق للحاكم الذي يتنكر وينزل كي يتفقد أحوال الرعية، مع أنه لم يبق الآن ما يدعوه إلى التنكر بوجود مؤسسات مجتمع مدني وأهلي تقوم بهذا الدور.
ننتقل الآن لبيان الأساس النظري لمفهوم الحرية كما ورد في كتاب الله تعالى، وهل من المعقول أن الله سبحانه وتعالى لم يذكر هذه القيمة العظيمة ولم يهتم بها، ثم لنشرح بعده مفهوم الردة لما له من علاقة مباشرة بمفهوم الحرية. ففي كتاب الله مصطلحان: الأول هو العباد والثاني هو العبيد. فما الفرق بين العباد والعبيد؟ لقد ورد المصطلحان في كتاب الله، فهل نحن عباد الله أم عبيد الله؟ هذا هو السؤال. والجواب إن الناس هم عباد وليسوا عبيداً في كتاب الله تعالىلقد جاء المصطلحان من اصل ثلاثي هو "ع، ب، د" وهو من ألفاظ الأضداد في اللسان العربي التي تعني الشيء وضده معاً. وفعل (عَبَد)َ
يعني أطاع كما يعني عصى في الوقت نفسه. أي أن العبادية تعني الطاعة والمعصية. وقد ورد هذا المصطلح بمعنييه في كتاب الله تعالى. فقال تعالى بمعنى الطاعة (إياك نعبد وإياك نستعين) (الفاتحة 5). وقال تعالى بمعنى المعصية (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله...) (الزمر 53). وقال (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) (الزخرف 81). وقال تعالى بمعنى الطاعة والمعصية معاً (نبّئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم) (الحجر 49). وقال (والنخل باسقات لها طلع نضيد، رزقاً للعباد) (ق ،10 11). وقال (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات 56). أي ليكونوا عباداً يطيعون ويعصون بملء إرادتهم واختيارهم. وليس كما يقول السادة العلماء أنه خلقهم ليصلوا ويصوموا ويكونوا عبيداً. فالعبودية غير مطلوبة أصلا. والله سبحانه لم يطلب من الناس أن يكونوا عبيداً له في الحياة الدنيا،"لآن ذلك لن يزيد او ينقص فى ملكوت الله>"فهو الغنى وهم الفقراء" ولذا الاوفق للصواب انه خلقهم ليكونوا عباداً، فيهم من يطيع فيصوم ويصلي، وفيهم يعصى فلا يصوم ولا يصلي...... إن حرية الاختيار التي يجسدها مصطلح العبادية هي كلمة الله العليا التي سبقت لأهل الأرض، وقامت عليها حكمة الخلق بالأساس، في قوله تعالى. (ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم...) (يونس 19 وهود 110 وطه 129 وفصّلت 45 والشورى 14).
ولهذا فحين نكره الناس على الإيمان أو نكرههم على الإلحاد تكون كلمة الله هي السفلى. ولهذا أيضا أمر رسول الله صلوات الله عليه بالجهاد من اجل أن تكون كلمة الله هي العليا. ولكن عندما يُكره الناس على الصلاة ولو في المسجد الحرام تصبح كلمة الله هي السفلى. وعندما نُكره النساء على الحجاب كما في أفغانستان أو نكرههن على نزع الحجاب تصبح كلمة الله هي السفلى. القضية إذن قضية "لا إكراه في الدين" وقضية حرية اختيار، لولاها لما بقي معنى ليوم الحساب ولا للثواب والعقاب. وتبين أن الحرية هي غاية الخلق في كتاب اللهننتقل الآن إلى المصطلح الثاني في كتاب الله تعالى وهو العبيد. لقد ورد هذا المصطلح في القرآن خمس مرات. (وأن الله ليس بظلام للعبيد) (آل عمران 182 والأنفال 51 والحج 10). (وما ربك بظلاّم للعبيد) (فصّلت 46). (وما أنا بظلام للعبيد) (ق 29). ونلاحظ أنها وردت كلها في مجال اليوم الآخر. لماذا؟ لأننا في اليوم الآخر عبيد ليس لنا من الأمر شيء. ولأننا في اليوم الآخر عبيد ليس لنا رأي ولا يحق لنا أن نتكلم أصلا. في الحياة الدنيا يؤمن الناس أو يلحدون يطيعون أو يعصون لأنهم عباد، أما في اليوم الآخر فلا وجود لحرية الاختيار، في اليوم الآخر هناك سَوْق. مثل السوق القسري إلى خدمة العلم. فيساق العصاة إلى النار تماماً مثلما يساق الطامعون إلى الجنة. يقول تعالى (وسيعود الذين كفروا إلى جهنم زمرا) (الزمر 71).
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا) (الزمر 73). ونفهم من هذا كله أن الناس عباد الله في الدنيا وعبيد
الله في اليوم الآخر. كما يتضح لنا بكل جلاء أن مفهوم الحرية في كتاب الله تعالى سبق مفهوم العدالة، بدليل ورود الظلم مقرونا بالعبيد في الآيات الخمس. لماذا؟ لأن العبد المملوك لا يستطيع أن يقيم العدالة، ومن هنا اقترن الظلم بالعبودية. أما العباد الأحرار فلا حاجة لتذكيرهم بالعدالة لأنهم يستطيعون أن يقيموها بأنفسهم باعتبارهم أحرارا. وحين يملك المرء حرية الاختيار ويرتفع عنه سيف الإكراه يصبح قادرا على تحقيق العدالة وصنعها. وهنا أذكر أن لفظ العبد والأمه في كتاب الله لاتعني الرق، والتي هي مفرد عباد، أما مفرد عبيد فهي العبد المملوك كما ورد في قوله تعالى (ضرب الله مثلاًعبداً مملوكاً لايقدر على شيء


د. محمد شحرور بتصرف

الدين والحرية


الدين والحرية
تركي الحمد

«ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين، قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. قال فاهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين. قال أنظرني إلى يوم يبعثون، قال إنك من المنظرين. قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين ايديهم ومن خلفهم وعن ايمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين. قال اخرج منها مذؤوماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم اجمعين. ويا آدم اسكن انت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين. فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا ربنا ظلمنا انفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع الى حين، قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تُخرجون» (الأعراف، 11 ـ24).
«واذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ابى. فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى. ان لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. فوسوس اليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى، فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى» (طه، 116 ـ 122

لطالما توقفت عند هذه الآيات كثيراً، وآيات القرآن الكريم كلها تستحق التوقف والتأمل، ولكن هذه الآيات بالذات ذات وقع خاص بالنسبة لي. فهي تتحدث عن بداية «التراجيديا» البشرية على هذه الأرض، وما قبل ذلك مما هو في عالم الغيب، ولا يعلمه تماماً إلا عالم الغيب والشهادة. قصة الخلق هنا، وخلق الإنسان تحديداً، ليست مجرد قصة تخبرنا بما جرى في الأزل مما لا نعلم، ولكنها ذات مغاز تتعلق بمعان للوجود البشري، وضعها الخالق في ثنايا القصة من اجل إعمال العقل فيها للوصول الى مثل هذه المعاني، فما خلق الله العقل الا للتدبر والتفكير.
فالله سبحانه وتعالى لا يفعل شيئاً بدون ان يكون لغاية معينة، وحكمة محددة، وليس هناك ما يدخل في باب العبث في هذا المجال: «الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار» (آل عمران، 191). هذا من الأمور المعلومة بالضرورة في الدين، خاصة في دين الإسلام، كل شيء وجد من أجل غاية، وكل شيء خلق من اجل هدف ـ خفياً كان أو ظاهراً ـ ومن هذه المقدمة الضرورية، يكون التأمل في آيات الله، وما تحتويه من قصص وعبر وأمثال، بذات العقل الذي ما فطره الله عبثاً، وبعيداً عن تلك القصص التي يوردها اشخاص وكتب، ليس من الضروري ان تكون متفقة مع روح القصة في القرآن.في قصة خلق الإنسان كما ترويها الآيات السابقة، هناك محطات كثيرة أجد أنه من الواجب التوقف عندها، أو هي تجبرنا على التوقف عندها، من اجل فهم كثير من الأمور التي ما زالت تشكل احاجي ومحل صراعات بين المؤمنين بذات الكتاب وغير المؤمنين، حتى وقتنا الحاضر، بل خصوصاً في وقتنا الحاضر، بينما هي في غاية الوضوح حين تتدبر قصص هذا الكتاب المبين.
المحطة الأولى التي تجبرنا على التوقف عندها، هي هذا «الحوار» بين الفاطر والمفطور، بين الله وابليس عندما رفض الآخير السجود لآدم. لقد أُمر إبليس بصريح العبارة بالسجود، ومن مالك الملك ذاته، ولكنه تمرد على الأمر ورفض الانصياع، عالماً انه يخاطب فاطره وخالقه، فماذا فعل الله وهو الكلي القدرة، الذي فطر إبليس من الأساس؟ بطبيعة الحال كان بإمكان ذي الجلال والإكرام أن يلقي بإبليس في جهنم مباشرة، أو حتى أن يلغيه من الوجود جملة وتفصيلاً، وهو الذي اوجده من العدم ابتداء، ورغم ذلك لم يفعل، ليس هذا فحسب، ولكنه دخل في جدل مع ابليس حول لماذا لم يطع أمره، وهو العالم المحيط بكل شيء، ويعلم تمام العلم لماذا يتمرد ابليس ومنذ الأزل، ورغم ذلك سأله وجادله، وفي النهاية طرده من الملكوت الأعلى، وأنظره حتى يوم يبعثون، أي حتى نهاية الزمان، وابليس مستمر في تمرده ورفضه الطاعة. بل وبعد ذلك يكون في الجنة مع آدم وحواء «قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو»، ويوسوس للزوجين، ويتسبب في طردهما من الجنة، ورغم ذلك يبقى الله مبقياً عليه الى يوم يبعثون. السؤال هنا هو: لماذا؟ لماذا يبقي الله على ابليس، رغم انه هو مصدر الشرور والآثام وكل ما هو مضاد لأوامر الله؟ بطبيعة الحال لا بد ان هنالك حكمة ما، ولكن ما هي هذه الحكمة؟ نحن لا ندعي هنا معرفة بالحكمة الإلهية في كل ذلك، ولكن ذلك لا يعفينا من التأمل ومحاولة معرفة تلك الحكمة، أو الحكم حقيقة، وهذا هو ما نحاول فعله هنا
الحكمة الأولى التي يمكن استنباطها من قصة الخلق هي ان وجود الشر ضروري لمعرفة الخير، وإلا ما كان للخير ان يعرف، فالأشياء تكتسب معانيها من اضدادها، ويضيع المعنى حين يفتقد الضد، بمعنى، ان تعددية الألوان ضرورية لمعرفة هذه الألوان، وإلا ما كان هناك معنى لأحمر أو أصفر أو أبيض أو أسود. بدون تعددية معينة، وبدون وجود تناقضات وأضداد، لا معنى لأي شيء. أين الخير وأين الشر في كل ذلك؟ هذا ما ستفصح عنه قصة الخلق لاحقاً، وحين يطرد آدم وحواء من جنة الخلد، قد يقول قائل أين الجديد في كل ذلك، فهذه مسألة معروفة ولا تحتاج الى فذلكة أو مماحكة لا ضرورة لها. وهذا اعتراض سليم، ونحن لا ندعي هنا بأننا آتون بما لم تأت به الأوائل، ولكن المشكلة انه رغم المعرفة بالحقائق البسيطة والمباشرة والفطرية، إلا أننا في سلوكنا نفعل غير ذلك. يأتي احدهم، فردا كان أو جماعة أو دولة أو غير ذلك، فيعتقد صادقاً، ونحن هنا لا نتحدث عن المزَيفين والمُزيفين، انه يعلم الخير كله، فيعتقد مخلصاً انه يجب ان يسير كل الناس على طريق الخير الذي اهتدى اليه، ولا غبار على ذلك، فما نفع العلم بالخير ان لم يكن عاماً وشاملاً. ولكن المشكلة تكمن حين يأتي هذا الاحد، ويحاول ان يجبر الآخرين على السير في الطريق الذي يعتقد مخلصاً وصادقاً ان لا طريق غيره. انه هنا يعتدي على مغزى الحكمة الإلهية التي نجدها في قصة الخلق بدون ان يدري، معتقداً انه يطيع الرب بعمله هذا. فهو يخالف الحكمة الإلهية عن طريقين. فإن كان على حق تام كما يعتقد مخلصاً، فإنه لم يتعامل مع الآخرين تعامل الرب مع إبليس ذاته. فالرب سبحانه هو الحق ذاته، ورغم ذلك لم يجبر إبليس على فعل السجود، رغم القدرة الكلية على ذلك، بل جادله ثم انظره الى يوم يبعثون. فإذا كان ذات الحق لم يجبر ذات الشر على الكف عن شره، وهو القادر على ذلك، فكيف يسمح المخلوق لنفسه أن يفعل ما لم يفعله الخالق؟هذا من ناحية، أو الطريق الأول، وان كان بحسن نية، في مخالفة الحكمة الإلهية. ومن ناحية اخرى، فحتى لو بررنا لهذا الأحد ما يفعله من اخذ الناس على طريق واحد للخير لا ثاني له، فإنه بفعله هذا يلغي التعددية التي لا يتبين الخير والشر إلا من خلالها، والتي تقف وراء خلق ملاك وانسان وشيطان معاً، لا ملاك وحده أو انسان أو شيطان. ومن هنا يتبين لنا مغزى كلمات الحق وهو يخاطب الملائكة بقوله «اني أعلم ما لا تعلمون»، حين استغربوا ان يخلق الله كائنا فيه شر كثير، وهم المجبولون على الخير التام، فلماذا يكون هناك خلق جديد؟ وللتوضيح، تصوروا مثلا أن أحدهم كان لا يحب إلا زهرة الزنبق مثلاً، وهي زهرة جميلة لا شك في ذلك ـ واعتقد شخصياً انها الأجمل بين كل الزهور ـ وهذا حق من حقوقه ايضاً لا شك في ذلك. ولكن لنتصور ايضاً ان هذا الشخص كان ذا سلطة ما، فأراد حمل الناس على التمتع بأجمل زهرة في الوجود، فمنع زرع كافة الزهور الاخرى، ولم يبق غير الزنابق، فكيف تكون الدنيا في هذه الحالة؟ ستمج النفس زهرة الزنبق ذاتها، وتصبح أبغض الزهور لدى الناس، وتفقد جمالها الذي ما كان بارزاً الا حين كانت بقية الزهور ترفع رؤوسها بجانبها. لقد خلق الله ابليس عابداً من عباده في الملكوت الأعلى، وهو يعلم انه سيتحول الى شيطان بعد المعصية (لاحظ دقة التعبير في القرآن الكريم، حيث لا يرد وصف ابليس بالشيطان إلا بعد حدوث المعصية)، ويعلم انه سيخرج آدم وحواء من الجنة بوسوسته، ولكن كل ذلك كان لحكمة ازلية، فلولا هبوط الزوجين الأولين من الجنة، لما عمرت الأرض، وهي الغاية الأساسية من خلق الإنسان قبل أن يخلق، حيث يقول الخالق: «واذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون» (البقرة، 30).نعم، كل شيء بحساب، ووفق تصور إلهي كامل لهذا الوجود. ولكن، وهنا يثور السؤال، أما كان بإمكان رب الزمان والمكان ان يفعل ما يريد بدون ان يلجأ الى كل هذه الأحداث المعروفة نهايتها بالنسبة له، وهو الذي تكمن ارادته بين الكاف والنون؟ هنا بيت القصيد كما يقولون، والمحطة الثانية التي نتوقف عندها في قصة الخلق. فالله القادر يريد ان يعطي المعنى لعباده من خلال صورة معينة لا تتجلى إلا من خلال أحداث القصة. هذا الإنسان الذي سيفسد ويسفك الدماء ويفعل ما يجوز وما لا يجوز، ورغم ذلك يخلقه الله، ويفضله على بقية خلقه، حتى على الملائكة انفسهم، وهم الذين يسبحون بحمده ويقدسونه، حين أمرهم بالسجود لهذا الكائن الطيني، وهم كائنات النور الخالص. بل وحتى بعد معصية الأكل من الشجرة، والاخراج من الجنة، يبقى الإنسان من أفضل كائنات الرحمن «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً». (الإسراء 70). كما يمكن ان نستدل على ذلك من قصة اخرى هي قصة «هاروت وماروت»، ولكن لهذه موقع آخر ليس محله هنا أو الآن. لماذا يكون ذلك، وعلى أي أساس كان هذا التفضيل، رغم الفساد وسفك الدماء؟ لسبب بسيط وواضح في اعتقادي، هو أن هذا المخلوق الجديد أعطي شيئاً اسمه «الحرية ""
فالملائكة الكرام، في الجانب الأعلى من الوجود، لا يرتكبون ذنباً، وما كان لهم ان يفعلوا، لأن الله جبلهم على هذا الأساس، فهم يفعلون ما يؤمرون بدون زيادة أو نقصان، وبالتالي فهم مسيرون بالكامل، ولا مجال لأي نوع من الاختيار هنا. وفي الجانب الأدنى من الوجود، فإن بقية الكائنات من دواب الأرض، تقودها الغريزة العارية، فهي تفعل ما تمليه عليها غريزتها، بدون أن يكون لها في الأمر خيار. أما الإنسان، فهو قادر على أن يرتقي الى مقام العليين (أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ، أو ان يهبط الى الدرك الأسفل من البهيمية ( ُأَسْفَلَ سَافِلِينَ) ،
وكل ذلك مرهون بإرادة الفرد من الناس، والارادة هي لب الحرية. فهو من يقوم بالاختيار، ويحاسب على اختياره الحر هذا. أما ان يأتي احدهم ويحاول ان يفرض «الملائكية» أو «البهيمية» على الانسان، فهو في تقديري تجاوز لإرادة الرب الأزلية، التي ارادت الحرية لهذا المخلوق، ومن خلال حريته تنبع مسؤوليته، ويحاسب بعدل بناء على معيار الحرية والمسؤولية هذا.
هذه النقطة تتضح لنا بجلاء من خلال قصة ادم وحواء في الجنة، وهي محطة من محطات قصة الخلق العظيمة

الصراع على فهم القرآن



الصراع على فهم القرآن


لا يكاد أحد يسمع صوت القرآن عاليا في أيامنا هذه – في كثير من بلاد المسلمين - إلا ويجول في خاطره سؤال ، من الذي مات يا ترى وهذا الاعتقاد بات طاغيا ، لا سيما أن الغبار لا ينفض من على المصحف الراقد في بيوتنا إلا لقراءته على ميت أو على من أشرف عليه....!!!وحتى لا أظلم بعض المتعبدين ، أستثني هنا من يعيش في ظل العبودية الحقة لربه جل وعلا ، المتنعم في ربيع ورياض القرآن ، وأجزم أن من تعلق قلبه بكتاب الله إنما يعشش حبه في قلوب الآخرين وغير هولاء يتعاملون مع القرآن الكريم بطرق شتى ، فالبعض اتخذ القرآن طريقاً للكسب وبابا للأرزاق . والبعض الآخر اعتبره وسيلة للعلاج فحسب ، فإذا ضعف بصره ، أو صدع رأسه ، أو آلمته أمعاؤه ، هرول إلى القرآن ليتلو آيات معينة منه حتى ترتفع بسببها هذه الأمراض والأسقام، وأما في غير هذه الحالة فلا يذكر القرآن ... وهنالك مجموعات أخرى لا تفتح القرآن إلا عند الاستخارة أو حين السفر ...
عموما ...أنا أؤمن بكل استفادة من القرآن الكريم ولكني لا أعتقد تحديد الاستفادة منه ضمن هذه المجالات وكثير من المسلمين لا يتلون كتاب الله إلا قراءة سطحية كحروف بلا معنى ، وكلمات بلا مفهوم ،

. أن الكثير من المهتمين بالدراسات القرآنية ، يصب جل اهتمامهم بالقضايا الثانوية المتعلقة بالقرآن الكريم ، كحصر عدد كلماته ، وحروفه ، بل وكل حرف على حدة
فى الوقت الذى يتم فيه السكوت عن الخوض فى القيم العليا مثل الحرية والعدالة
!!
ولا أنفي ألبته أهمية تلك الدراسات لبيان جوانب الإعجاز فيه ، لكنى أرى أن المبالغة فيها وصرف الاهتمام عن جوهر القرآن مشكلة كبيرة يعاني منها المسلمون في أيامنا هذه
....
، فمن هو الذي يملك الحق في فهم القرآن واستنباط الأحكام منه ؟ لم يكن القرآن بعيدا عن الأيادي يوما ما ، وليس هناك من بين نصوصه ما يمنع أحدا من الخوض فيه والتدبر في معانيه . والكثير من آياته تدعو إلى الفهم والعلم والتدبر ولا يحصرها في أناس دون غيرهم

...
.
بقلم : علاء الدين عبد الرزاق جنكو

بتصرف