Wednesday, May 21, 2008

الدين والحرية


الدين والحرية
تركي الحمد

«ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين، قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. قال فاهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين. قال أنظرني إلى يوم يبعثون، قال إنك من المنظرين. قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين ايديهم ومن خلفهم وعن ايمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين. قال اخرج منها مذؤوماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم اجمعين. ويا آدم اسكن انت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين. فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا ربنا ظلمنا انفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع الى حين، قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تُخرجون» (الأعراف، 11 ـ24).
«واذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ابى. فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى. ان لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. فوسوس اليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى، فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى» (طه، 116 ـ 122

لطالما توقفت عند هذه الآيات كثيراً، وآيات القرآن الكريم كلها تستحق التوقف والتأمل، ولكن هذه الآيات بالذات ذات وقع خاص بالنسبة لي. فهي تتحدث عن بداية «التراجيديا» البشرية على هذه الأرض، وما قبل ذلك مما هو في عالم الغيب، ولا يعلمه تماماً إلا عالم الغيب والشهادة. قصة الخلق هنا، وخلق الإنسان تحديداً، ليست مجرد قصة تخبرنا بما جرى في الأزل مما لا نعلم، ولكنها ذات مغاز تتعلق بمعان للوجود البشري، وضعها الخالق في ثنايا القصة من اجل إعمال العقل فيها للوصول الى مثل هذه المعاني، فما خلق الله العقل الا للتدبر والتفكير.
فالله سبحانه وتعالى لا يفعل شيئاً بدون ان يكون لغاية معينة، وحكمة محددة، وليس هناك ما يدخل في باب العبث في هذا المجال: «الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار» (آل عمران، 191). هذا من الأمور المعلومة بالضرورة في الدين، خاصة في دين الإسلام، كل شيء وجد من أجل غاية، وكل شيء خلق من اجل هدف ـ خفياً كان أو ظاهراً ـ ومن هذه المقدمة الضرورية، يكون التأمل في آيات الله، وما تحتويه من قصص وعبر وأمثال، بذات العقل الذي ما فطره الله عبثاً، وبعيداً عن تلك القصص التي يوردها اشخاص وكتب، ليس من الضروري ان تكون متفقة مع روح القصة في القرآن.في قصة خلق الإنسان كما ترويها الآيات السابقة، هناك محطات كثيرة أجد أنه من الواجب التوقف عندها، أو هي تجبرنا على التوقف عندها، من اجل فهم كثير من الأمور التي ما زالت تشكل احاجي ومحل صراعات بين المؤمنين بذات الكتاب وغير المؤمنين، حتى وقتنا الحاضر، بل خصوصاً في وقتنا الحاضر، بينما هي في غاية الوضوح حين تتدبر قصص هذا الكتاب المبين.
المحطة الأولى التي تجبرنا على التوقف عندها، هي هذا «الحوار» بين الفاطر والمفطور، بين الله وابليس عندما رفض الآخير السجود لآدم. لقد أُمر إبليس بصريح العبارة بالسجود، ومن مالك الملك ذاته، ولكنه تمرد على الأمر ورفض الانصياع، عالماً انه يخاطب فاطره وخالقه، فماذا فعل الله وهو الكلي القدرة، الذي فطر إبليس من الأساس؟ بطبيعة الحال كان بإمكان ذي الجلال والإكرام أن يلقي بإبليس في جهنم مباشرة، أو حتى أن يلغيه من الوجود جملة وتفصيلاً، وهو الذي اوجده من العدم ابتداء، ورغم ذلك لم يفعل، ليس هذا فحسب، ولكنه دخل في جدل مع ابليس حول لماذا لم يطع أمره، وهو العالم المحيط بكل شيء، ويعلم تمام العلم لماذا يتمرد ابليس ومنذ الأزل، ورغم ذلك سأله وجادله، وفي النهاية طرده من الملكوت الأعلى، وأنظره حتى يوم يبعثون، أي حتى نهاية الزمان، وابليس مستمر في تمرده ورفضه الطاعة. بل وبعد ذلك يكون في الجنة مع آدم وحواء «قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو»، ويوسوس للزوجين، ويتسبب في طردهما من الجنة، ورغم ذلك يبقى الله مبقياً عليه الى يوم يبعثون. السؤال هنا هو: لماذا؟ لماذا يبقي الله على ابليس، رغم انه هو مصدر الشرور والآثام وكل ما هو مضاد لأوامر الله؟ بطبيعة الحال لا بد ان هنالك حكمة ما، ولكن ما هي هذه الحكمة؟ نحن لا ندعي هنا معرفة بالحكمة الإلهية في كل ذلك، ولكن ذلك لا يعفينا من التأمل ومحاولة معرفة تلك الحكمة، أو الحكم حقيقة، وهذا هو ما نحاول فعله هنا
الحكمة الأولى التي يمكن استنباطها من قصة الخلق هي ان وجود الشر ضروري لمعرفة الخير، وإلا ما كان للخير ان يعرف، فالأشياء تكتسب معانيها من اضدادها، ويضيع المعنى حين يفتقد الضد، بمعنى، ان تعددية الألوان ضرورية لمعرفة هذه الألوان، وإلا ما كان هناك معنى لأحمر أو أصفر أو أبيض أو أسود. بدون تعددية معينة، وبدون وجود تناقضات وأضداد، لا معنى لأي شيء. أين الخير وأين الشر في كل ذلك؟ هذا ما ستفصح عنه قصة الخلق لاحقاً، وحين يطرد آدم وحواء من جنة الخلد، قد يقول قائل أين الجديد في كل ذلك، فهذه مسألة معروفة ولا تحتاج الى فذلكة أو مماحكة لا ضرورة لها. وهذا اعتراض سليم، ونحن لا ندعي هنا بأننا آتون بما لم تأت به الأوائل، ولكن المشكلة انه رغم المعرفة بالحقائق البسيطة والمباشرة والفطرية، إلا أننا في سلوكنا نفعل غير ذلك. يأتي احدهم، فردا كان أو جماعة أو دولة أو غير ذلك، فيعتقد صادقاً، ونحن هنا لا نتحدث عن المزَيفين والمُزيفين، انه يعلم الخير كله، فيعتقد مخلصاً انه يجب ان يسير كل الناس على طريق الخير الذي اهتدى اليه، ولا غبار على ذلك، فما نفع العلم بالخير ان لم يكن عاماً وشاملاً. ولكن المشكلة تكمن حين يأتي هذا الاحد، ويحاول ان يجبر الآخرين على السير في الطريق الذي يعتقد مخلصاً وصادقاً ان لا طريق غيره. انه هنا يعتدي على مغزى الحكمة الإلهية التي نجدها في قصة الخلق بدون ان يدري، معتقداً انه يطيع الرب بعمله هذا. فهو يخالف الحكمة الإلهية عن طريقين. فإن كان على حق تام كما يعتقد مخلصاً، فإنه لم يتعامل مع الآخرين تعامل الرب مع إبليس ذاته. فالرب سبحانه هو الحق ذاته، ورغم ذلك لم يجبر إبليس على فعل السجود، رغم القدرة الكلية على ذلك، بل جادله ثم انظره الى يوم يبعثون. فإذا كان ذات الحق لم يجبر ذات الشر على الكف عن شره، وهو القادر على ذلك، فكيف يسمح المخلوق لنفسه أن يفعل ما لم يفعله الخالق؟هذا من ناحية، أو الطريق الأول، وان كان بحسن نية، في مخالفة الحكمة الإلهية. ومن ناحية اخرى، فحتى لو بررنا لهذا الأحد ما يفعله من اخذ الناس على طريق واحد للخير لا ثاني له، فإنه بفعله هذا يلغي التعددية التي لا يتبين الخير والشر إلا من خلالها، والتي تقف وراء خلق ملاك وانسان وشيطان معاً، لا ملاك وحده أو انسان أو شيطان. ومن هنا يتبين لنا مغزى كلمات الحق وهو يخاطب الملائكة بقوله «اني أعلم ما لا تعلمون»، حين استغربوا ان يخلق الله كائنا فيه شر كثير، وهم المجبولون على الخير التام، فلماذا يكون هناك خلق جديد؟ وللتوضيح، تصوروا مثلا أن أحدهم كان لا يحب إلا زهرة الزنبق مثلاً، وهي زهرة جميلة لا شك في ذلك ـ واعتقد شخصياً انها الأجمل بين كل الزهور ـ وهذا حق من حقوقه ايضاً لا شك في ذلك. ولكن لنتصور ايضاً ان هذا الشخص كان ذا سلطة ما، فأراد حمل الناس على التمتع بأجمل زهرة في الوجود، فمنع زرع كافة الزهور الاخرى، ولم يبق غير الزنابق، فكيف تكون الدنيا في هذه الحالة؟ ستمج النفس زهرة الزنبق ذاتها، وتصبح أبغض الزهور لدى الناس، وتفقد جمالها الذي ما كان بارزاً الا حين كانت بقية الزهور ترفع رؤوسها بجانبها. لقد خلق الله ابليس عابداً من عباده في الملكوت الأعلى، وهو يعلم انه سيتحول الى شيطان بعد المعصية (لاحظ دقة التعبير في القرآن الكريم، حيث لا يرد وصف ابليس بالشيطان إلا بعد حدوث المعصية)، ويعلم انه سيخرج آدم وحواء من الجنة بوسوسته، ولكن كل ذلك كان لحكمة ازلية، فلولا هبوط الزوجين الأولين من الجنة، لما عمرت الأرض، وهي الغاية الأساسية من خلق الإنسان قبل أن يخلق، حيث يقول الخالق: «واذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون» (البقرة، 30).نعم، كل شيء بحساب، ووفق تصور إلهي كامل لهذا الوجود. ولكن، وهنا يثور السؤال، أما كان بإمكان رب الزمان والمكان ان يفعل ما يريد بدون ان يلجأ الى كل هذه الأحداث المعروفة نهايتها بالنسبة له، وهو الذي تكمن ارادته بين الكاف والنون؟ هنا بيت القصيد كما يقولون، والمحطة الثانية التي نتوقف عندها في قصة الخلق. فالله القادر يريد ان يعطي المعنى لعباده من خلال صورة معينة لا تتجلى إلا من خلال أحداث القصة. هذا الإنسان الذي سيفسد ويسفك الدماء ويفعل ما يجوز وما لا يجوز، ورغم ذلك يخلقه الله، ويفضله على بقية خلقه، حتى على الملائكة انفسهم، وهم الذين يسبحون بحمده ويقدسونه، حين أمرهم بالسجود لهذا الكائن الطيني، وهم كائنات النور الخالص. بل وحتى بعد معصية الأكل من الشجرة، والاخراج من الجنة، يبقى الإنسان من أفضل كائنات الرحمن «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً». (الإسراء 70). كما يمكن ان نستدل على ذلك من قصة اخرى هي قصة «هاروت وماروت»، ولكن لهذه موقع آخر ليس محله هنا أو الآن. لماذا يكون ذلك، وعلى أي أساس كان هذا التفضيل، رغم الفساد وسفك الدماء؟ لسبب بسيط وواضح في اعتقادي، هو أن هذا المخلوق الجديد أعطي شيئاً اسمه «الحرية ""
فالملائكة الكرام، في الجانب الأعلى من الوجود، لا يرتكبون ذنباً، وما كان لهم ان يفعلوا، لأن الله جبلهم على هذا الأساس، فهم يفعلون ما يؤمرون بدون زيادة أو نقصان، وبالتالي فهم مسيرون بالكامل، ولا مجال لأي نوع من الاختيار هنا. وفي الجانب الأدنى من الوجود، فإن بقية الكائنات من دواب الأرض، تقودها الغريزة العارية، فهي تفعل ما تمليه عليها غريزتها، بدون أن يكون لها في الأمر خيار. أما الإنسان، فهو قادر على أن يرتقي الى مقام العليين (أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ، أو ان يهبط الى الدرك الأسفل من البهيمية ( ُأَسْفَلَ سَافِلِينَ) ،
وكل ذلك مرهون بإرادة الفرد من الناس، والارادة هي لب الحرية. فهو من يقوم بالاختيار، ويحاسب على اختياره الحر هذا. أما ان يأتي احدهم ويحاول ان يفرض «الملائكية» أو «البهيمية» على الانسان، فهو في تقديري تجاوز لإرادة الرب الأزلية، التي ارادت الحرية لهذا المخلوق، ومن خلال حريته تنبع مسؤوليته، ويحاسب بعدل بناء على معيار الحرية والمسؤولية هذا.
هذه النقطة تتضح لنا بجلاء من خلال قصة ادم وحواء في الجنة، وهي محطة من محطات قصة الخلق العظيمة

No comments: