Wednesday, December 26, 2007

خصــائص



إن أسوأ خصائصنا الفكرية
ـ فى تقديرى ـ
تتمثل فى الاعتقاد بالصواب المطلق
حتى فى فروع الفروع وتفاصيل التفاصيل
واعتقاد هذا شأنه لابد وأن
ينعكس فى نتيجة منطقية
وهى الاعتقاد بالخطأ المطلق لمن يختلف معنا
,..
.. أما أسوأ خصائصنا
( التفكيرية )
فهى أسلوب التفكير أحادى الاتجاه,
حيث لا سبيل للحقيقة غير أسلوبنا فى التفكير
, ولا احترام لأسلوب الآخرين
ولا اعتقاد بأن لهم منهجًا وعقلاً و أسانيد
, فالمنهج لدينا هو ما ننهج
والعقل فى مفهومنا هو ما نعقل
والأسانيد فى تصورنا هى ما يساند أفكارنا ومنهجنا ونتائجنا
..

وقد عرفنا في عصرنا أناساً يجهدون أنفسهم، ويجهدون الناس معهم،
ظانين أنهم قادرون على أن يصبوا النّاس في قالب واحد يصنعونه هم لهم،
وأن يجتمع النّاس على رأي واحد، يمشون فيه وراءهم، وفق ما فهموه من النصوص ،
وبذلك تنقرض المذاهب، ويرتفع الخلاف، ويلتقي الجميع على كلمة سواء
ونسي هؤلاء أن فهمهم للنصوص ليس أكثر من رأي يحتمل الخطأ، كما يحتمل الصواب

التحرر الإنساني..



......



هذا المبدأ العظيم الكبير:
( لا إكراه )
وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره

وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد

وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه..
وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني..
إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق
"الإنسان "
التي يثبت له بها وصف
"إنسان "
فالذي يسلب إنسانا حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء..
ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة لما يعتقد، والأمن من الأذى والفتنة..
وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة.
والإسلام- فى تصوره للوجود وللحياة ،- كما افهم- هو أقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء

هو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين، وهو الذي يبين لاصحابه قبل سواهم انهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين
فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة، المتعسفة وهي تفرض فرضا بسلطان الدولة، ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة؟

والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق
: لا اكراه في الدين
نفي الجنس كما يقول
! النحويون..
أي نفي جنس الإكراه، نفي كونه ابتداء فهو يستبعده من عالم الوجود والوقوع
.
وليس مجرد نهي عن مزاولته. والنهي في صورة النفي-
والنفي للجنس
أعمق إيقاعأ وآكد دلالة"
والآية الكريمة
( لا إكراه في الدين )
على وضوحها وصراحتها ليست هي المورد الوحيد لإعلان الحرية الدينية وتأكيدها في القرآن الحكيم، بل هناك العديد من الآيات الشريفة التي تعالج موضوع حرية العقيدة والفكر من مختلف الجوانب والأبعاد
فالإنسان في نظر القران ليس مسيّراً مجبرا على أعماله وتصرفاته بل هو حر مختار وبالتالي فهو مسؤول أمام الله عما يصدر منه، يقول تعالى: (
إنا هديناه السبيل إما شاكرأ وإما كفورا )
الانسان 3
والأنبياء وظيفتهم التبليغ والتذكير وليس لهم حق الفرض على الناس أو إكراههم على الإيمان برسالتهم
فلو ان الله تعالى يريد الطاعة من الناس بالقسر لكان سهلا ويسيرا على قدرته يقول تعالى
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين )
يونس
99
وفي آية أخرى يقول تعالى.
( فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر )
الغاشية
21.22
ويقول تعالى:
(وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر )
الكهف29
وآيات عديدة كثيرة في القران الحكيم تشكل
منظومة كاملة حول حرية الإنسان في هذه
الحياة
وما الآية الكريمة _(لا اكراه في الدين)
إلا الخلاصة والعنوان لهذه المنظومة الهامة الخطيرة

نقول انه في الوقت الذي كان التعصب الديني قد بلغ مداه جاء الإسلام ليهتف
( لكم دينكم ولي دين )
وكانت هذه مفاجأة للمجتمع البشري الذي لم يكن يعرف حرية التدين وربما
لم يعرفها حتى الآن

Monday, December 17, 2007

حتى يغرسها



"إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها فله بذلك أجر



كم من معنى تستخلصه النفس من الكلمات البسيطة العميقة في آن
أول ما يخطر على البال هو : أن طريق الآخرة هو طريق الدنيا بلا اختلاف ولا افتراق
إنهما ليسا طريقين منفصلين: أحدهما للدنيا والآخر للآخرة
وإنما هو طريق واحد يشمل هذه وتلك، ويربط ما بين هذه وتلك.
ليس هناك طريق للآخرة اسمه العبادة. وطريق للدنيا اسمه العمل
وإنما هو طريق واحد أوله في الدنيا وآخره في الآخرة. وهو طريق لا يفترق فيه العمل عن العبادة ولا العبادة عن العمل. كلاهما شيء واحد . وكلاهما يسير جنباً إلى جنب في هذا الطريق الواحد
يغرسها والقيامة تقوم تساوى
العمل إلى آخر لحظة من لحظات العمر. إلى آخر خطوة من خطوات الحياة
وتوكيد قيمة العمل، وإبرازه والحض عليه، فكرة واضحة شديدة الوضوح . ولكن الذي يلفت النظر هنا ليس تقدير قيمة العمل فحسب، وإنما هو إبرازه على أنه الطريق إلى الآخرة .
كل المعوقات.. كل الميئسات.. كل " المستحيلات ".. كلها لا وزن لها ولا حساب.. ولا تمنع عن العمل.
وبمثل هذه الروح الجبارة تعمر الأرض حقاً وتشيد فيها المدنيات والحضارات

ان أمام الكسالى منا قدوة تنفعهم إذا فتحوا لها بصائرهم وتدبروا معانيها. إن عليهم أن يعملوا دائماً ولا يكلّوا.. يعملوا جهد طاقتهم، وفوق الطاقة ليعوضوا القعود الطويل. يعملوا في كل ميدان من ميادين العمل: في ميدان العلم وميدان الصناعة وميدان التجارة وميدان الاقتصاد وميدان السياسة وميدان الفن وميدان الفكر..
يعملوا ولا يقولوا: ما قيمة العمل؟ وماذا يمكن أن نصل إليه؟
يغرسوا الفسيلة ولو كانت القيامة تقوم اللحظة. فإنما عليهم أن يعملوا، وعلى الله تمام النجاح
استطيع القطع بأن كل الظواهر السلبية مثل التطرف والجهل والإدمان والإهمال .. الخ إنما هي ظواهر صنعتها أيدي البشر وليس للقدر أو للصدفة فيها نصيب، كما إن الاعتدال والعلم والاستقامة والجدية هي ظواهر ايجابية أفرزتها حركة إنسانية جادة تسعى لدفع الحياة نحو التطوير والتحديث المستمر. إذاً فالإنسان ليس مجرد ريشة معلقة في الفضاء تتقاذفها الريح كيف شاءت، إنما هو كائن ذو عقل وإرادة بهما فٌضل على كثير مما خلق الله وبهما أيضا كٌٌلف وبهما استٌخلف في الأرض كي يقودها نحو الأفضل دائما .. العقل للتفكير والتخطيط ،والإرادة لإخراج التفكير والتخطيط إلى حيز التنفيذ والتطبيق، وعلى ذلك فلو تخلى الإنسان عن عقله وإرادته لتخلى وقتئذ عن إنسانيته المكرمة

تأصيل مفهوم الحرية



تأصيل مفهوم الحرية


على الرغم من أن مفردة «الحرية» لم ترد في القرآن الكريم بلفظها، وحتى ما ورد من مشتقاتها جاء في سياق تضييق الخناق على نظام العبودية الذي كان شائعاً في الجزيرة العربية، إلا أن مفهوم الحرية في تراثنا الإسلامي قد ورد كثيراً في سياق التأصيل للقيم الإنسانية، ومنها قيمة الحرية لتكون في مستوى التكليف والالتزام ولتخرج المؤمنين بالرسالة المحمدية من جملة من القيود التي فرضها الواقع السابق. وهذا ما يمكن قراءة دلالاته القرآنية في مثل النهي عن الخضوع لسلطة الآباء، وسلطة اتباع السائد على حساب الحقيقة، وهو المعبر عنه بـ «الملأ». بل تحولت الحرية بعد نهاية عهد الاستضعاف إلى مطلب ضروري يستدعي الهجرة وترك الديار، ولم يكن هذا المفهوم قاصراً على تحرير المسلمين، بل كان ليشمل قبل التبديل الذي طرأ على المفاهيم الإنسانية، بعد انقضاء ما اصطلح على تحقيبه بالخلافة الراشدة، غير المسلمين. فالخليفة عمر بن الخطاب قال قولته المشهورة التي ذهبت مثلاً «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً». فالحرية شرط التكليف وهي الأسلوب الاحتجاجي الذي كان يستخدمه القرآن حتى مع كفار قريش، حيث عرض حجتهم بمنتهى الموضوعية وجعلها على النصف من حيث القيمة الاستدلالية، كما قوله: «وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين».
والشواهد في التأكيد على قيمة الحرية في النص الشرعي متكاثرة إلا أن هذا المفهوم سرعان ما أصابه التكلس والضمور في التناول الفقهي، بعد أن تحولت مفاهيم الإسلام الكبرى بسبب الاستلاب السياسي والممارسات القمعية في التاريخ الإسلامين التي وظفت المدارس الفقهية عبر تغذية صراعاتها المذهبية وشرعنة الاستبداد السياسي، الذي ما لبث أن انعكس على الفقهاء أنفسهم، حتى لم يسلم الأئمة الأربعة من تأثيرات غياب مفهوم الحرية، حيث توالت المحن عليهم كل بحسب السياق التاريخي الذي وجد فيه. واستمر هذا الانحدار في التأصيل لمفهوم الحرية وممارستها على مدى عقود طويلة، عدا استثناءات يسيرة لم تكن لتؤثر على المشهد العام، حتى جاءت لحظة الولادة الثانية للاجتهاد الإسلامي عبر رواد النهضة، كالأفغاني ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده ورشيد رضا والطاهر بن عاشور وآخرين، حيث فتح ملف الحرية مجدداً لكن منظوراً إليه هذه المرة من نافذة الآخر الغربي، الذي لم تكن تجربته بأحسن من تجربة مجايله حتى استقر به الحال إلى اعتبار مفهوم الحرية أساسياً ومحايثاً لمفهوم الوجود ذاته، وكلفه ذلك الكثير من الدماء والصراعات والتضحيات.
وللأسف فإن خطاب النهضة بكل إيجابياته وسلبياته، لم يتحول إلى خطاب سائد، بل كانت المعارضة له شديدة. وسرعان ما اضمحل مع بزوغ نجم الحركات الإحيائية التي كانت الجماعة الأم جماعة الإخوان المسلمون أول من مثلها في العصر الحديث. ثم توالت الانشطارات وازداد الوضع تفاقماً بعد الاصطدام بالسلطات التي جاءت على أنقاض الاستعمار، ودخلت في صراع طويل ودموي مع هذه الجماعات، مما أدى إلى وضع مفهوم الحرية على الرف، على حساب الحفاظ على الهوية واستعادة الخلافة!!!، والسعي لمجتمع فاضل من بوابة الحاكمية وتطبيق الشريعة !!!إلخ. وتلك هي العموميات التي زدات الأمر تعقيداً وغموضاً، ومع ذلك فإن كل المؤشرات اليوم وبعد رياح العولمة العاتية، التي حولت العالم إلى قرية كونية، يجب أن يعيد الخطاب الإسلامي فتح ملف «الحرية» وكل لوازمها من التعددية والحوار وقبول الآخر، كضرورة حتمية. فالأمر لم يعد خياراً يمكننا قبوله أو رفضه. نعم، يمكن أن نختلف على ضوابط الحرية وعلى تطبيقاتها، لكن الحد الأدنى منها المتمثل في حرية القرار الذي يتخذه الإنسان الحر الواعي المكلف، والذي لا تستطيع قوى العالم مجتمعة أن تسلبه إياه، هو ما يجب أن نتفق عليه، لنخرج من عزلتنا عبر العودة إلى القيم الأساسية التي جاء بها الإسلام، واستطاع من خلالها أن يؤسس لحضارته العظيمة

فلسفة قبول الاستبداد


"




لقد ألفنا الأدب مع الكبير ولو داس رقابنا، وألفنا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق، وألفنا الانقياد ولو إلى المهالك، وألفنا أن نعتبر التصاغر أدباً، والتذلل لطفاً، والتملق فصاحةً واللكنة رزانةً، وترك الحقوق سماحةً، وقبول الإهانة تواضعاً، والرضى بالظلم طاعة، ودعوة الاستحقاق غروراً، والبحث في العموميات (المصالح العامة) فضولاً، ومد النظر إلى الغد أملاً طويلاً، والإقدام تهوراً، والحمية حماقةً، والشهامة شراسةً، وحرية القول وقاحةً، وحرية الفكر "كفراً، و حب الوطن جنوناً .."



طبائع الاستبداد"""'

الكواكبى

Sunday, December 16, 2007

الحرية الفكرية



الحرية الفكرية
في الإسلام بين القبول والرفض


انّ المستشرقين هم أول من صاغ القناعة السائدة _حالياً _ في الغرب، والتي يرددها ايضاً بعض المثقفون ، والقائلة بوجود علاقة تناقضية بين الالتزام الديني في الإسلام وبين حرية الفكر. ويستدلّون على تأخر العالم الإسلامي، بهذه العلاقة التي انتجت سيادة لون واحد من التفكير وغلبة الرقابة المؤسسيَّة، التي تمثّلها المؤسسة الدينية على الوان النشاط الفكري، والرقابة الذاتية التي يفرضها الفرد المسلم خشية خروجه على الاطار الإسلامي، إذا ما أعطى لعقله حرية الانطلاق في عالم الفكر، وارتياد المجهول والتفكير في اللامُفكَّر فيه.
أننا في بداية الحديث نسجل اعترافنا بأنّ الحرية الفكرية تفتح عوالم جديدة أمام الإنسان والمجتمع، للوصول الى ما يريدان الوصول اليه، وان الابداع رهين بكسر حواجز الاستبداد والصنميّة،

* * *
ولكنّ المشكلة التي تواجهنا هي أننا بحاجة الى تعريف لحدود الحرية الفكرية، وتشخيص لسقفها الأعلى. فليس هناك اتفاق على حدود هذه الحرية في
جميع البيئات الثقافية والدينية، وإنّما أصبح القياس يرتكز دائماً على استحضار حدود الحرية الليبرالية، التي عاشها الغرب وأسهمت في نهوضه. ومن لم يتمكّن من مطابقة وضعه مع أوضاع الغرب فانّه يبقى متخلّفاً أو مُتَّهماً،

وبسبب الحالة الدفاعية التي عاشها الفكر الإسلامي، فانّ الخطاب الاحتجاجي الذي استخدمه الإسلاميون لتأكيد وجود الحرية الفكرية في الإسلام، لجأ الى التذكير بالتاريخ والماضي البعيد، والمقارنة مع الواقع الذي عاشته أوربا في القرون الوسطى، تحت سلطة الكنيسة. ولا نكران فى ما قدّمه الإسلام من نموذج متطور في قرونه الأولى، غير أنّ المشكلة القائمة هي مشكلة الواقع الحالي فتأريخ المسلمين المعاصر والحديث، لايصلح للاحتجاج بوجود الحرية الفكرية، وذلك لسيادة أنواع من القيود المختلفة على حريّة التفكير، مصدرها الفَهم الديني والأعراف الاجتماعية، وبالخصوص القيود السلطوية التي فرضهاالاستبداد منذ قرون طويلة
ومن هنا،
فعلى من يتصدّى لمعالجة قضية الحرية في الإسلام، أن يؤسّس وعياً جديداً في الوسط الاجتماعي، ولا سيما في الاوساط الفكرية والثقافية لتصبح مصدر تنوير، يوضّح أهمية ممارسة هذا الحق الطبيعي والشرعي، وأهمية كسر الأغلال التي تحول دون ذلك. ويستلزم الأمر _أولاً _ تأصيل الحرية مفهومياً وفلسفياً من جديد، وردّ الاتهامات والشبهات وسوء الفهم، لبناء الوعي النظري بها، وثانياً تحديد حدود هذه الحرية، أي التأسيس القانوني لها، وهو الجانب المرتبط بالممارسة العملية.
وقد ساهمت الرموز الفكرية في المعركة في شقّها الأول، وتناولت في العديد من الابحاث المبثوثة والمستقلّة موضوع الحرية في الاسلام، وبضمنها الحرية الفكرية، لكنّ هذه الابحاث اقتصرت على الجانب المفهومي النظري، ولم يتبعها تقنين واضح يحدّد للإنسان المسلم تكليفه.
كما تناولتها البحوث المتأخرة والمهتمّة بتدوين ميثاق اسلامي لحقوق الانسان. وبيان تمايزاته عن الميثاق الذي صاغته العقلية الغربية. وقد أسهم في هذه البحوث أساتذة أجلاّء، الا ان المشكلة ظلت قائمة عمليّاً، فحدود الحرية الفكرية ربما تكون واضحة نظرياً، إلاّ أنّها عملياً غير واضحة وهناك بعض الأمثلة على ذلك، منها أننا لازلنا نعيش مشكلة الحدود النهائية للمغامرة الفكرية والفنيّة والادبية. ولم نتوصّل الى اتفاق حولها، مع التسليم بأنّ القيود التي وضعها الإسلام محدودة ولا تتجاوز نطاقاً ضيّقاً. أي أنّ هناك قيوداً ذهنية واجتماعية، تعمل عمل الكوابح التي تحول دون انطلاق حرية الفكر. ولسنا نطالبُ بحرية غير مسؤولة، وبأدب وفن يتعدّى الذوق الاخلاقي والحدود الشرعية. ولكنّ صرامة الموقف تعكس رؤية فكرية وفلسفية ....، وبالتالي فانّ ردّ الفعل العنيف الذي يظهر أحياناً على شكل اطروحات داخل الصف الإسلامي، يعكس وجهة نظر متشدّدة، ولكنّها صادقة ومخلصة، ومشكلتها أنّها تصدر عن عقلية تفهم الإسلام على طريقتها، بينما يفهمه آخرون بطريقة مغايرة، اننا نُواجَه أحياناً بحالات تتطلب موقفاً حاسماً، يكون البتّ فيه تحديداً لموقف الإسلام من الحرية الفكرية.
إذ هل يستطيع إنسان مسلم ملتزم لا يُشكُّ في نواياه، أن يبحث ويحقّق في قضايا تاريخية، ويعطي فيها رأياً استنتاجياً أو اجتهادياً، دون رقابة إجتماعية أو مؤسساتية مباشرة وغير مباشرة، لمجرد انها تصدم الوعي السائد أو تطيح بقداسة موروثات مقدّسة ومتعارف على قداستها. ودون أن يتّهم بتهم مختلفة _! وهل يمكن لعالم أو مثقف أن يعبّر عن رأي غير متداول ، وله انعكاسات جدّية، وهو مطمئن الى انّه يمارس حقّ التفكير من داخل الدائرة الاسلامية، وله أن يعبر عن رأيه دون أن يساء تفسير ذلك الرأي، أو دون ان تصدر ضدّه ردود فعل حادّة؟ وهل يستطيع باحث مسلم، أن يبدي رأياً اجتماعياً في قضايا اسلامية، قد تحُدث نوعاً من الهزة في السكينة السائدة، دون أن يقال له انّ افكاره تهدم عقيدة عوامّ الناس وتزلزل تديّنهم، ولا يفهم موقفه على انّه اجتهاد في دائرة الاجتهاد المفتوح؟.

قد يقال انّ هذه القيود لا علاقة لها بالاسلام من حيث المبدأ. ولكنّها ترتبط بالواقع الاسلامي من حيث تعقيداته وتقاليده، وتتعلق أساساً بالفهم الديني وليس بجوهر الدين الاسلامي.

هذه الاسئلة تحتاج الى جواب جدّي. فاذا كنّا نقول انّ بداية الحرية الفكرية في الإسلام مفتوحة على مصراعيها _وهي كذلك _ فلماذا تضيق بعض الاوساط الاسلامية بالرأي المغاير داخل الدائرة الاسلامية نفسها، فضلاً عن الرأي الآخر الذي قد لا يلتقي معها أبداً؟ ولماذا يتصاعد الخلاف ويتحول الى تراشق عنيف بالتهم، كما يحصل في واقعنا المعاصر حول الكثير من القضايا التي تنطلق في الساحة الفكرية.
أعتقد أننا مازلنا ندور في حلق التأصيل النظري مأخذوين بالحالة الدفاعية التي تحاول ان تنفي عن الاسلام تهمه تقييد الحريّة الفكرية. فيما الواقع العملي لا يبدّد هذه التهمة. والسبب في ذلك، انظمة الاستبداد التى تعشش فى مجتمعاتنا وبسبب تخلّف الفقه السياسي بالقياس الى فروع الفقه الاخرى . وهذا ناشيء _بدوره _ عن وجود أسباب عديدة

هناك صعوبة في ترسيم حدود الحرية الفكرية ولكنّ التفكير بها جدّياً أمر ملحّ وضروري
و الاسلام لا يمنع أحداً من ابداء القول الذي يعتقد به، ومثلما واجه المسلمون حركات الزنادقة
وانتهى فكر هؤلاء ولم يصمد، فانّ إتاحة المجال امام اى افكار لن يضرّ المسلمين في شيء
.

Wednesday, December 5, 2007

التعددية في الإسلام3

* التسامح مع غير المسلم:
خلق الله الناس على أديان مختلفة ويجب أن يسع أهل الأديان بعضهم بعضاً. لا يجبر أناس على أن يتركوا دينهم ليعتنقوا ديناً آخر، لم يأت الإسلام بهذا، لأنه ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ ()، ولذلك يحث الإسلام المسلم أن يسع المخالفين، لا أن يقهرهم على أن يتبعوا دينا واحدا، سواء كان ذلك الدين دينه هو أو دين غيره. كما لا يسمح الإسلام لأحد أن يقهر معتنقيه على ترك دينهم أو أن يمنعهم من طاعة ربهم. هذه التعددية الدينية هي التي قررها الإسلام منذ العهد المكي وفي العهد المدني أيضا. نجد أن هناك سورة في القرآن جمعت بين أمرين قد يظنهما بعض الناس متناقضين، الاعتزاز بالدين إلى أقصى حد والتسامح مع المخالف إلى أقصى حد، هذه السورة هي سورة الكافرون. السورة الوحيدة التي خاطب الله فيها غير المسلمين في حياتهم الدنيا بعنوان الكافرين، فمن عادة القرآن أن يخاطب غير المسلم دائماً بـ (يا أيها الناس، يا بني آدم، يا عبادي، يا أهل الكتاب...) لكن ورد في هذه السورة ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ (). ويعود سبب نزولها لقصة مساومة المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. كانوا يساومون النبي ويفاوضونه على أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة، وهذه المساومات أراد القرآن أن يقطعها بقرار حاسم واضح جلي، ولذلك قال ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ ()، هذا التكرار والتأكيد يتبعه في نهاية السورة هذا التسامح العجيب ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (). * العقائد اختيار محض: قد يظن بعض الناس أنه ليس هناك دين غير الإسلام، لا، بل هناك أديان أخرى، والواقع يؤكد هذا المعنى، فأهل الكتاب مثلا لهم دينهم، ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ﴾ ()، هذه الأديان الأخرى وسعها الإسلام، وعاشت في ظلاله قروناً والمسلمون آنذاك بفتوحاتهم وتوسعاتهم كانوا في مرحلة قوة وكانوا هم قادة العالم ولهم القوة الأولى في الدنيا، كانوا يستطيعون أن يفرضوا على الناس دينهم فرضا ويكرهونهم على الإسلام كرها، لم يحدث ذلك أبداً ()، وإن حدث فالفعل مردود على فاعله، لأن الإسلام لا يقبل إيماناً فيه شبهة إكراه، لابد للإيمان أن يكون اختياراً محضاً، ولذلك لم يجبر غير المسلمين في وقت من الأوقات على دخول هذا الدين، وهذا ما قرره بعض المستشرقين الغربيين أنفسهم مثل توماس أرنولد () بقوله: "لم يحدث في تاريخ المسلمين أن جماعة أجبرت على أن تدخل في الإسلام إكراه"، تركوا هؤلاء وعاشوا في بلاد المسلمين أهل ذمة لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، لهم كنائسهم ولهم بيعهم ولهم نواقيسهم ولهم أزياؤهم...، ما أجبر أحد على أن يغير زيه ليكون مثل المسلمين، بل بالعكس، ما دام الإسلام قد تركه لدينه وضمن له حرية الاعتقاد فمن حقه أن يعيش بدينه وأن يقيم شعائره وأن يؤدي واجباته وأن يرعى حقوقه، وهذا من ثمرات إقرار التعدد واحترام مبدأ التسامح. إن التعددية الدينية تحتاج إلى التسامح، وقد يتساءل البعض: كيف يتسامح الإنسان وهو يعتقد أن دينه هو الحق وأن دين غيره هو الباطل؟ وإذا كان يعتقد هذا كيف يتسامح مع غيره ؟ لعل الإجابة تكمن في أن هذا الأمر يعد من روائع ما جاء به الدين الحنيف، أنه برغم اعتزاز معتنقه بإسلامه ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ ()، رغم اعتزازه بالإسلام ومباهاته بالإسلام ومغالاته بالاعتزاز بهذا الدين فإنه قد غرس فيه من العقائد والمفاهيم والأفكار ما يجعله يتعايش بتسامح منقطع النظير مع المخالفين له. من هذه المفاهيم والأفكار الأساسية أنه بين أن اختلاف الناس واقع بمشيئة وإرادة الله الخالق، الله هو الذي أراد الناس كذلك ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ ()، هكذا خلق الله الناس وأن هذا واقع بمشيئته، ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، وما دام هذا بمشيئة الله التي لا تنفصل عن حكمته - من أسماء الله وصفاته المذكورة في القرآن: اسم الحكيم - فمن العبث أن يقاوم الإنسان مشيئة الله، لأن مشيئة خالقه وبارئه هي النافذة وهي الغالبة وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن (). الأمر الثاني، أن الإسلام يكرم الإنسان من حيث هو إنسان، الإنسان من حيث آدميته مكرم في الدين الإسلامي، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ ()، الله أوجد الإنسان وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة وجعله في الأرض خليفة، فبذلك يصير الإنسان هو محور هذا الوجود، كرمه الله بغض النظر عن لون بشرته أو شعره أو عينيه، بل بغض النظر عن دينه أي دين هو معتنقه. جاء في كتابي البخاري ومسلم () أن أناسا مروا بجنازة إنسان ميت فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم واقفا، فقالوا: يا رسول الله إنها جنازة يهودي، هل تقوم احتراماً لها؟ فقال النبي: (أليست نفسا؟). أليست نفسا بشرية؟ فما أروع الموقف وما أروع التعليم.. النفس البشرية تكرّم لأنها نفس بقطع النظر عن دينها. وهكذا، النفس الإنسانية مكرمة معصومة مصونة، ﴿أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ ().. هذا هو الأمر الثاني الذي يعالج به الإسلام التعصب ويسعى لمحوه من نفسية الفرد ليغرس فيها التسامح والأفق الواسع. الأمر الثالث، هو أن الإسلام يأمر بالعدل - من أسماء الله وصفاته المذكورة في القرآن: اسم العدل - مع الناس جميعاً، لا وبل مع كل الكائنات وفي كل حالة وهيئة: مع المحب أو غير المحب، مع القريب أو البعيد، مع الصديق أو العدو، مع المسالم أو المحارب، مع المسلم أو غير المسلم، فالعدل للناس جميعاً بدون استثناء، ولذلك تجد القرآن يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ ()، هذا عدل مع المحب أو القريب، ويقول في آية أخرى في شأن البغيض أو البعيد ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا﴾ ()، –لا يحملنكم شنآنهم أي شدة بغضهم لكم أو شدة بغضكم لهم، لا يحملنكم هذا على ألا تعدلوا– ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ()، لأن العدل مع الجميع وللجميع، وبهذا يغرس الإسلام روح التسامح مع المخالفين، بلا حيف ولا تضييق، يعاملهم بالعدل ويعاملهم بالرحمة ويعاملهم بالقسطاس المستقيم، بما أن الأرض تسع الجميع
. *
الخاتمة:
توقفنا في هذه الورقة عند بعض تجليات التعددية في الإسلام كما تبرز من خلال الآيات القرآنية، ولا نحسب أننا أتينا عليها جميعا، لكننا ركزنا على أهمها من وجهة نظرنا، فالموضوع طويل ويحتاج إلى كتابات ممتدة وعميقة ومتأنية تقرب من تحديد معالم قضية التعدد وذلك بتوفر عنصر أساسي، ألا وهو ضرورة قراءة كل الآيات القرآنية التي لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بمسألة الاختلاف. يمكن القول بأن المنظور الإسلامي، خصوصا بمصدره الأساسي )القرآن(، يقر التعددية بكل صورها وألوانها ويبين للمسلمين وغير المسلمين أن الحياة تتسع للموافق والمخالف. ونستطيع أن نخلص بأن الاختلاف حقيقة كونية وفريضة شرعية أقرها الإسلام. فإذا وصلنا إلى هذه النتيجة أيقنا أن الذين يتحدثون عن زوال هذا الاختلاف أو نفي وجوده أصلا وعن اجتماع الناس على رأي واحد غير منصوص عليه بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وهو الذي يمثل ثوابت الإسلام وأركانه، كلامهم يحتاج إلى نظر حيث يصعب إثباته أو تطبيقه، وهو ما لم يحدث حتى في عهد أصحاب النبي الذين اختلفوا والرسول بينهم يتنزل عليه الوحي. فالإنسان لا يمل من هذا الاختلاف سواء كان في أمور شرعية أو أمور حياتية صرفة، ما دام ذلك بعيدا عن التنازع المفضي إلى التفرقة والشقاق والبغضاء والبغي. بل من المهم أن يكون هذا الاختلاف منهج حياة يطبقه الزوج والزوجة في بيتهما مع أولادهما وتطبقه المؤسسات على اختلافها وتنوعها بداية من الأسرة، النواة الأولى لبناء المجتمع، وصولا إلى مؤسسة الدولة أو مجموعة الدول أو العالم بأسره، وذلك لتوطيد قيم الحوار والتسامح اللذان يعدان من أرقى الروابط السامية للاجتماع البشري
.
* مراد الرويسي: باحث تونسي (دكتوراه في علم الاجتماع- كندا)

التعددية في الإسلام2

التعددية العرقية
نجد أن هناك تعدداً في العروق والأجناس والعناصر، يقول القرآن ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ ().
خلقناكم من ذكر وأنثى، أي كلكم أولاد رجل وامرأة: آدم وحواء. ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ﴾: هذا الشعب العربي وهذا الشعب الهندي وهذا الشعب التركي وهذا الشعب الايطالي وهذا الشعب الكندي،.. شعوب وقبائل لتعارفوا، أي لتتفاهموا، لتتعاونوا، لا لتتناكروا ولا لتتصادموا ولا لتتعادوا. هكذا خلق الله البشر عروقاً وأجناساً، كلها تنتهي لأب واحد وأم واحدة وتنتمي لرب واحد هو الذي خلقها وسواها -من أسماء الله وصفاته المذكورة في القرآن: اسم الواسع- ثم هذا ما أقره النبي محمد صلى الله عليه وسلم للألوف المؤلفة من المسلمين في حجة الوداع حينما قال: "أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد.. كلكم لآدم وآدم من تراب" ().
إذن فالأجناس كلها متساوية من وجهة نظر الإسلام، ويجب أن يسعى بعضها بعضاً لإقامة المساواة، فلا يحاول جنس أن يطغى على جنس فضلاً عن أن يبيد جنساً آخر
.
* التعددية اللغوية:
التعددية العرقية حقيقة من الحقائق الكبرى في الإسلام، والتعددية اللغوية أو اللسانية هي أيضا، فالله خلق الناس باختلاف ألسنتهم ولغاتهم. القرآن يقول ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ ()، هذا يتكلم بالعربية وهذا يتكلم بالفارسية وهذا يتكلم بالهندية، وهذا يتكلم بالعبرية … لا بل قد تختلف اللغة الواحدة فتنقسم بدورها إلى عدة لهجات. يتكلم الناس بلغاتهم، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ ()، حتى الرسالة العالمية رسالة الإسلام ورسالة القرآن ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (12)، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾ ()، جاءت بلسان عربي مبين، فكيف يقع تبليغها في ما بعد إلى العالم؟ بالترجمة: أي تترجم إلى لغات يستعملها الآخرون حتى يعرفوها، فحوار الحضارات والثقافات والتفاعل في ما بينها يمكن الإنسان من تعلم لغة غيره وتعليم غيره لغته، ومن ثم لابد أن نعترف بأن هناك لغات شتى وألسنة مختلفة يتحدث الناس بها ويتخاطبون ويتفاعلون من خلالها
.
* التعددية الثقافية:
بما أن التنوع ظاهرة كونية، فهو يشمل مختلف جوانب الحياة: الإنساني والحيواني والطبيعي الجغرافي. ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (). يتبين من خلال هذه الآية القرآنية أن الإنسان كلما كان واعيا بحقيقة الاختلاف، باحثا في الكون مكتشفا لأسراره، كلما اتسعت دائرة علمه ومعارفه. والعلماء هم الأكثر تأهيلا، لا لخشية الله فحسب، بل وأيضا لمعرفة واكتشاف حقائق الكون وتنوعه، فهم يعرفون بأبحاثهم ومعاينتهم وتجاربهم واكتشافاتهم وخشيتهم لخالقهم أيضا اختلاف الألوان. والتنوع يعبر عنه القرآن باختلاف الألوان، أي اختلاف الأنواع والأصناف. ثم من شأن هذا الاختلاف الطبيعي الجغرافي والحيواني والإنساني أن يثري الحياة الإنسانية على كل أصعدة مستوياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. بهذا، ومع إقراره بالتعددية العرقية واللسانية واللغوية، يعترف المنظور الإسلامي كذلك بالتعددية الثقافية. ما دام الناس يتعددون في أعراقهم ولغاتهم وألسنتهم ويتعاملون ويتفاعلون بأساليب مختلفة مع كائنات متعددة الألوان فلابد أن يتعددوا في ثقافاتهم، والمراد بالناحية الثقافية ما يتصل بالحياة ومفاهيمها ونظمها وتقاليدها ومعارفها وتقنياتها وعادات الناس فيها. فالناس يختلفون في أمور شتى: في ملابسهم ومآكلهم ومشاربهم ومساكنهم... لكل جماعة إنسانية طريقة- وربما طرائق- اتخذتها ومنهج اتبعته في تفاعلها مع محيطها وبيئتها، ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ ()، ولذلك قدر الإسلام هذه الاختلافات في ثقافات الناس، ووسع هؤلاء جميعاً. فالناس أحرار في ثقافاتهم وتقاليدهم وأعرافهم وعاداتهم. ويرى البعض أن الحضارة الإسلامية مثلا، شاركت فيها أنواع عديدة من العناصر والأجناس والأديان المختلفة، وساهمت في إثرائها ثقافات متعددة، فكل بثقافته شارك في تشييدها وازدهارها وكل ترك له بصمة في ناحية من النواحي الحياتية فيها. هذا التعدد في الإسهامات الثقافية من شأنه أن يغني حضارة ما من الحضارات ويعززها وينميها، وعلى النقيض من ذلك، الحضارة التي تقوم على لون واحد أو شكل واحد أو صورة واحدة فهذه تعد حضارة فقيرة.. الحضارة الغنية هي التي تأخذ وتستفيد من الجميع وتقتبس من الكل. هذا ما يعبر عنه بالتنوع أو التعدد الثقافي الثري. * التعددية الدينية: مع التعددية العرقية واللسانية اللغوية والثقافية عموما، نجد أن هناك في الإسلام تعددية دينية، هذه التعددية الدينية مرتبطة بالتعددية الثقافية -التعدد الثقافي ينجم عنه تعدد ديني- ما دام الناس يتعددون ثقافيا فلابد أن يتعددوا دينياً. خلق الله الناس مختلفين، خلق لكل منهم عقلاً يفكر به، ومنحه إرادة يرجّح بها، ومنحه ملكات وقوى ومواهب مختلفة على أساسها يختار الناس لأنفسهم ما يريدونه. لو شاء الله أن يجعل الناس كلهم مؤمنين به لفطرهم على التوحيد والإيمان كما فطر الملائكة، ولكن الله خلق من خلقه خلقاً مفطورين على عبادته ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ ()، ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ ()، هؤلاء هم الملائكة، وخلق من خلقه نوعاً ميزه بالإرادة وبالاختيار، هو الذي يقرر مصيره بنفسه ولنفسه ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ ()، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ ()، ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ ()، ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ ()، أعطاه المشيئة والإرادة والاختيار والقدرة ليقرر مصيره ويسلك طريقه، هذا النوع هو الإنسان. لم يشأ الله أن يجبره على دين واحد ولا على الإيمان به، بل ترك له الحرية قي هذه القضية، وأعطاه الأدوات التي يفكر بها وبعث له الرسل وأنزل له الكتب لتعاونه وتساعده على اختيار الطريق الذي يريده أن يسلكه، ولكن ترك له الخيرة. هكذا خلق الله ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ ()، (لذلك) أي وللاختلاف خلقهم، لأنه خلقهم متغايرين في الفكر والإرادة فلابد أن يتغايروا في الدين الذي يختارونه، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ ()، لا يكره الناس على دين ما أو على عقيدة معينة. نوح عليه السلام، على سبيل الذكر لا الحصر، قال لقومه ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾
()،
أنلزمكم بالهداية ؟ لا بل أنتم أحرار في هذا المجال.

التعددية في الإسلام





مقدمة




تهدف هذه الورقة إلى تقديم معالم رؤيتى بخصوص موضوع التعددية كمبدأ عام وأساسي للحياة الإنسانية، من خلال رسم بعض صور تجلياتها التي تدلل وتؤكد على أنها ضرورية للاجتماع البشري وللتعايش السلمي. ونعتمد في ذلك أساسا على النص القرآني في عرض وتحليل هذه الفكرة.


فالتركيز هنا ينصرف في المقام الأول إلى التعدد الديني والثقافي باعتبار أن غيابهما أو غياب أحدهما يعد سببا من أهم الأسباب التي تؤدي إلى تنامي التطرف الديني والصراع الحضاري. وبالتعبير السوسيولوجي، تطمح هذه الورقة إلى تسليط الضوء على طبيعة التفاعل الحضاري والثقافي الذي ينبغي أن يسود بين الشعوب والمجتمعات من وجهة نظر قرآنية على الخصوص. هناك إجماع في أدبيات العلوم الإنسانية المعاصرة -وفي غيرها من العلوم - على أن الاختلاف يعد من أبرز سمات الوجود الإنساني ومن أوكد ضرورات الاجتماع البشري، بل والطبيعي أيضا، فالاختلاف سنة من السنن الكونية: هذا الكون الرحب الفسيح بهذا الاختلاف يفضي إلى التنوع والتناغم والتناسق، ويُذْهِبُ الرتابةَ والفتور. وهذا من شأنه أن يجعل للحياة طعما ومذاقا خاصا، فالاختلاف والتنوع يثريان الحياة، ويكسبان المرء خبرة حيث حل وحيثما ارتحل، فلو أن الناس جميعا خلقوا وجبلوا على صورة واحدة، والأماكن كلها كانت على صورة واحدة من حيث طبيعة المكان والمناخ وغير ذلك، ما احتاج الإنسان أن ينتقل من مكانه الذي ولد فيه، ولسئم العيش من أول سنوات إدراكه لمعنى الحياة لأنه لا يجد جديدا. ويرى البعض أن أهمية الاختلاف لا تتأتى فقط من كون التنوع هو أصل الاجتماع البشري، بل لأنه أيضا مما تدعو إليه الفطرة وتقتضي به الطبيعة. وما الاختلاف في واقع الأمر إلا ظاهرة من ظواهر الوجود أودعت في الكائنات عموما وفي الإنسان خصوصا. فمن وجهة نظر الإسلام، لولا سنة الاختلاف التي هي سبب من أسباب الخلق، لاستحالت الحياة. وفي غياب الاختلاف لا يمكن أن يكون الإنسان، من المنظور الإسلامي، ذلك المخلوق الذي سوّاه الإله ونفخ فيه من روحه، ثم منحه العقل، وعلّمه البيان، وفضله على كثير من المخلوقات، واستخلفه في الأرض، وسخّر له ما في الكون جميعا، ثم هيّأ له مبادئ الروابط السامية التي تمكنه من الترفع عن كل تسفل، وتدعوه إلى التعاون مع نظيره في الخلق، في عمارة الكون وتدبير المصالح وتبادل المنافع. ويمتن الله على عباده من خلال آيات الكتاب المقدس للمسلمين )القرآن(، أن جعل من آياته تعاقب الليل والنهار حتى لا يشعر الإنسان بالملل، ويتسنى له أن يجعل لكل وقت ما يناسبه من الأعمال:


﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ



انطلاقا من النص القرآني الذي يحفل بالآيات التي وردت فيها لفظة (الاختلاف) () يمكن القول بأن التصور الإسلامي للوجود يقوم على فكرتين أساسيتين - الفكرة الأولى: هي وحدانية الخالق، - والفكرة الثانية: هي تعددية الخلق

واختلاف المخلوق. وعلى هذين الأساسين بنى الإسلام تصوره وعقيدته وفكرته عن هذا الوجود. فبالنسبة للمسلمين فإن الله وحده هو الواحد، وكل ما بعده متعدد: هو واحد في ذاته وواحد في صفاته وواحد في أفعاله، هو الخالق وحده والمحيي والمميت وحده وهو المعبود وحده، لا يستحق العبادة غيره ولا الاستعانة بمن سواه، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ()، ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ ). وعلى هذا كان التوحيد في الإسلام بمثابة جوهر هذا الدين وأساسه المتين. فالتوحيد إذن هو روح الوجود الإسلامي ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ()، وهذه كانت دعوة الأنبياء والمرسلين جميعاً، كل الرسل دعوا قومهم كما جاء في معرض آيات القرآن إلى التوحيد: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ ()، والطاغوت كل ما يعبد ويعظم ويطاع طاعة مطلقة من دون الله سواء كان من البشر أم من غير البشر. فالهدف من بعثة الأنبياء هو تحرير البشرية من عبادة غير الله، من عبادة الأشياء أو عبادة الذوات أو عبادة الأشخاص أو عبادة الأفلاك أو عبادة الحيوان أو عبادة الإنسان أو عبادة الهوى والذات. تحرير البشر من العبودية لغير الله كان رسالة الأنبياء جميعاً التي تركزت وتجسدت في الدين الخاتم الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم ليحرر الناس من عبادة الطواغيت حتى يعيشوا أحراراً متساوين فلا يمكن للناس أن ينعموا بظلال الحرية وبنسيمها إذا كان بعضهم يعبد بعضاً أو يذل بعضهم لبعض. هذه هي الفكرة الأولى التي نستخلصها من قراءتنا لبعض آيات القران. أما الفكرة الثانية فهي التعددية في الخلق، التعددية العرقية والتعددية اللسانية والتعددية الدينية، والتعددية الثقافية، كل هذه التعدديات شرعها الإسلام. المسلم ليس وحده في هذا الوجود، هناك آخرون يشاركونه في الحياة. إذن فثمة تعدد في الخلق



.