Friday, February 26, 2010

رؤية






رؤية تأسيسية لحرية الاخـتيار


بتكامل الفردي والجماعي يتكامل السلوكي والخلقي، التشريعي والكوني، الذاتى

والموضوعي. وبما أن الإنسان جماعي بالخلق وبما أن التشريع يُلزم المرء بأن لا يفرِّط في هذا أو ذاك وأن يكون وسطًا بحيث لا يفقد التوازن بين الذاتي والموضوعي، فإن الإسلام يؤسس لسلوك لا يتناقض مع الخلق بل ينسجم معه. وهذا من الناحية الفلسفية في غاية الإحكام لأن الذي خلق الكون ضمن نواميس وقواعد محددة لا يمكن أن يشرع سلوكيًا بصورة متناقضة مع الطبائع التي فطر الله تعالى الكون عليها. علمًا أن الذات الإلهية ليست خاضعة لعقلانية أو منطقية، وتبقى المسألة ضمن قدرتنا النسبية على صياغة الأمور صياغة منطقية، واستيعابها عقليًا.

يقودنا هذا إلى إشكالية حرية الاختيار. يقول الغربيون: إن الديمقراطية وحدها هي التي تكفل حرية الاختيار وتدافع عنها. أما الإسلام حسب عدد من مؤلفيهم لا يكفل هذه الحرية، ويصر على تسيير الإنسان حسب قواعد جامدة تسلبه حريته وقدرته على الإبداع والمشاركة في أعمال المجتمع. ويعزز بعض الإسلاميين الذين يتعاملون مع الإسلام على أنه شيء من الماضي هذه النظرة ويقولون بأن الإسلام قد وضع حلولاً لكل المشاكل، وما يطرأ من أمور، وأن المسلم لا يحتاج إلى إبداع وإنما إلى معرفة التفاصيل الشرعية، وإذا كان له أن يُعمل عقله فإن له ذلك ولكن بحدود القواعد الشرعية وتفصيلها، وعدم الانطلاق نحو إبداعات أو اجتهادات قد تخطّئ الماضي. ويعزز بعض المجددين الإسلاميين هذه النظرة أيضًا بجنوحهم نحو تمجيد الديمقراطية، وذلك على اعتبار أن الإسلام لا يتناقض معها، ويجعلونها - بقصد أو بغير قصد - المرجعية التي يمكن قياس التعاليم والسلوكيات الإسلامية حسبها.

فارق جوهري وحاسم

حرية الاختيار في الإسلام خَلٌقية أما في الديمقراطية فتاريخية اجتماعية، والفرق بين الحريتين كبير جدًا ولا يمكن تجسيره. إنهما ذواتا منطلقين مختلفين تمامًا على الرغم من تشابه أو تطابق بعض انعكاساتهما العملية. حرية الاختيار في الإسلام خلقية لأن القدرة على التمييز خلقية، إنها مترتبة على قدرة فطر الله الإنسان عليها.

قال تعالى: "ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها" (الشمس، 7-10)، وقال: "وهديناه النجدين" (البلد، 8). فالإنسان عاقل، ويفكر، ويستطيع أن يقرر عن نفسه ولنفسه، وأن يميز الأشياء طيبها وخبيثها، خيرها وشرها. تأكيدًا على عقلانيته طلب منه الله سبحانه في القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا أن يتفكر ويتعقل بآيات الله ليدرك المعجزة الإلهية وليفقه وتتطور لديه الحكمة. فمثلاً خاطبه الله بالقول: "فلينظر الإنسان مم خلق". (الطارق، 5)، وخاطبه أيضًا: "فلينظر الإنسان إلى طعامه" (عبس، 24). إنه خطاب موجه إلى عاقل من أجل استخلاص العبر والحكم والارتقاء بالمعارف والعلوم من خلال اكتشاف أسرار الكون ونواميسه الإلهية. فلا يكتفي الخالق جل وعلا بالقول بخلق الإنسان من طين؛ بل عليه أن يبحث في هذه المسألة ليصل إلى نتائج، ولا يكفي أن ينظر إلى أصناف الطعام ويتعجب بل عليه أن ينظر في مكوناتها وأسرارها. إنه قادر على فعل ذلك لأنه خُلق وفيه القوة التي تؤهله للقيام بذلك. والإنسان يتذكر ما يعمل مما يعزز عقلانيته. قال تعالى:"يوم يتذكر الإنسان ما سعى" (النازعات، 35). وهو لا يتوقف عند التذكر، بل هو قادر على وزن أعماله وإصدار حكم حولها. إنه يعرف ما يقوم به من عمل ومدى جنوحه عن الطريق الحق، فتقول الآية: "بل الإنسان على نفسه بصيرة" (القيامة: 10). إنه قادر على محاكمة نفسه ومحاسبتها.

القدرة التمييزية خلقية وحرية الاختيار مترتبة عليها، وإلا انتفت حكمة التمييز وانتفت معها صلاحية بعض التشريعات الإسلامية، مثل حرية الاختيار بين الإيمان والكفر، وانتفت معها أيضًا مسؤولية الإنسان عما يقوم به من أفعال وأعمال.

الحرية الخلقية تعني أن الإنسان لم يختر أن يكون حرًا، وإنما قدّر الله له أن يكون حرًا. ولم يخترع فكرة الاختيار، وإنما ولد وهي جزء لا يتجزأ من تركيبته النفسية الذهنية. إنها قدر إلهي كما أن كل نواميس الكون قدر إلهي لا رادّ لها ولا يملك الإنسان طاقة أو قدرة على إلغائها أو تخفيفها أو تجنبها. إنها ناموس كوني ثابت لا يملك الإنسان إلا دراسته، ومحاولة اكتشاف أسراره وتبعاته، والعوامل التي تؤدي إلى رقي الإفادة منه، وصقل الطاقات الإنسانية نحو مزيد من الاكتشاف والابتكار والمعرفة. أما محاولة القفز عن هذا القَدَر أو الحقيقة الخلقية أو إلغائه لا تقود فقط إلى إلحاق أضرار بالإنسان والمجتمع؛ وإنما تشكل اعتداء على ما قدّر الله.

ولقد تعزز خلق الله للحرية مع خلقه الإنسان نفسه بتشريعات واضحة، حيث تقول الآية الكريمة: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف، 29)، وتقول أخرى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى…" (البقرة، 256): بمعنى أن سلب حرية الاختيار من الناحية التشريعية عبارة عن اعتداء على حدود من شأنها تنظيم العلاقات بين الناس.

إذا تمت ترجمة الطبيعة الخَلقِية في حرية الاختيار إلى فكر سياسي نجد أن فهمنا لها يمنعنا من ممارسة كبت الحريات؛ لأن ذلك عبارة عن تعرض لمسألة خلقية لها علاقة بالإرادة الإلهية، وفي هذا عبث. إنه من السذاجة والغباء أن يقف امرؤ في وجه قدر إلهي أو إرادة إلهية؛ لأنه لن يقدر على أية مقاومة أو تغيير. وهو بذلك كمن يحاول طي الشمس لتظهر علينا من الغرب أو الجنوب. أما إذا حاول أحد القيام بذلك، وقد تمت المحاولات تاريخيًا في كل مكان، فإنه يصنع أجواء غير صحية تتميز بالكبت والقهر والظلم والشعور بالضعة والهوان والكراهية والتآمر وعدم الاستقرار... إلخ. والثابت تاريخيًا فشل محاولات حرمان الناس من حريتهم في الاختيار في الاستمرار، وأن هذه المحاولات العقيمة ولدَّت ردود فعل متعددة الأنواع، وانتهت إلى التغيير.

إسلاميًا، السبب واضح وهو أن الاعتداء على حرية الاختيار عبارة عن اعتداء على شيء طبيعي خلق به الإنسان؛ مما يولد تناقضًا ما بين الطبيعي والاجتماعي. وبما أن الطبيعي متأصل، فإن الإنسان، رضي أم لم يرض، سيثور حتمًا ضد ما يناقض طبيعته مهما طال الزمن. قد يطول عمر الممارسة الاجتماعية السلبية، والتي هي في هذه الحالة الاستبداد والطغيان، لكنها لن تعمر أبدًا، وتبقى تناقضاتها مع الحالة الموضوعية الخَلقِية مصدرًا للمشاكل والهموم والآلام. فمهما استعمل الحاكم أو المسؤول من قوة للوقوف في وجه ما فُطر الإنسان عليه فإن حكمه لن يدوم. أي أن عوامل الدفع باتجاه التمشي مع ما هو طبيعي فاعلة وقوية ولا تختفي أو تموت


عبد الستار قاسم

9 comments:

Tears said...

عزيزى ارى ان الجدل فى فهم الدين كبير جدا على مر العصور و ايضا هناك عدة اديان لذا فالحل الامثل هو ان يبقى الدين فى القلب و فقط و ليكن انعكاس هذا فى العمل و السلوك القويم و ليس فى الشعارات و السجالات

فليبقى الدين فى المسجد و الكنسية و القلوب و لينعم البشر اجمعين بدول مدنية ذات قوانين عادلة تتفق و مواثيق حقوق الانسان و تنمى الحضارة

sal said...

العقل كالمظلة لا يعمل إلا مفتوحا، فإذا أغلق توقف عن العمل، وتسبب في قتل صاحبه. ولذا ما علينا الا أن نفتح عقولنا حتى لا نموت
.....
ولان الثقافة العربية الإسلامية الحالية ثقافة تقليدية تراثية نفتح الكتب والتلفزيونات والبرامج الثقافية، فنجد الثقافة العربية الإسلامية تعيد إنتاج نفسها، وتكرر نفسها. لماذا؟ لأنها ثقافة تقوم على القياس ولا تقوم على الإبداع، ونحن نحتاج إلى إبداع وليس إلى قياس

وانا متابع "فيما ارى" لمعظم

الاجتهادات

سواء كانت اسلامية الهوى او ليبرالية او تحاول المزاوجة بينهما
فى البوست القادم ان شاء الله
تكون بعض التفاصيل
وفى تدوينة نعم لعلمنة السياسة ولا لعلمنة الوجود توحى بمنهج المزاوجة الذى اشرت اليه
اقدر اهتمامك وحرصك على حسن التواصل
ولك كامل تقديرى

sal said...

تييرز
انا نسيت اقول كل سنه وانت بخير
بمناسبة المولد النبوى

تحياتى

Anonymous said...

الحريه دوما كانت ضاله الانسان التي بحث عنها مرارا

ومعظم الانبياء اتوا في اشد العصور قسوه على البشر ... وكانت عصور تتميز بالجهل والاستبداد

ولكل نبي جوله ضد مستبد في زمانه

فوقف موسى عليه السلام ضد فرعون ... وابراهيم عليه السلام ضد النمرود ... ومحمد عليه الصلاه والسلام ضد ساده قريش ثم كسرى وقيصر

مقال رائع

تحياتي

Anonymous said...

على فكره المقال اول الكلام فيه مختفي ... يا ريت حضرتك تجيبه شمال شويه

انا قريته من صفحه التعليقات ... بس الخط كان صغير :)

تحياتي

ماجد العياطي said...

لم ارى في هذا الكلام ما يجعل الدين غليظ في تعامله مع السياسه

بل على العكس

لقد وضحت الرؤيا

ان هناك اتجاهات اسلاميه كانت او علمانيه

تنزل الدين في غير منزله


وجدنا في الاسلام ما يعزز الابداع

ووجدنا في السنه ما يجعل العقل في نماء

اما الثوابت التي يرفضها الناس فهي من اسس الدين

وليس الاسلام السياسي في تطبيق الحدود او اقامة الامارة وهذا الكلام الغير

ولكن قبل الحدود

هناك نظام اجتماعي

وهناك قسم كبير يدعي تشريع جنائي اسلامي
وتشريع مدني اسلامي

وهناك تطوير العلوم والفنون ...الخ


ولجوء البعض الى التراث هو لجوء لدوله عظيمه في وقت من الاوقات شجعت على العلم

الدين عميق ولا يستحق ان يحبس في المساجد او الكنائس

فهذا هروب منه

ومن مسؤليته

احييك اخي سال على هذه التدوينه الراقيه في مضمونها قبل اسلوبها

ونسأل الله ان يجعلها في ميزان الحسنات

وفقك الله

sal said...

فتاة الصعيد

معظم الانبياء اتوا في اشد العصور قسوه على البشر ... وكانت عصور تتميز بالجهل والاستبداد

معاكى حق
بس على كده فكرتينى بواحد صاحبى سورى
قاللى

ان اوضاعنا سيئة وفاسدة

وبدها نبى"

وعشان عصر النبوات خلص وانتهى
برسالة سيد الخلق
مفيض قدامنا الا تمثل قيم الاسلام فى نظام مؤسسى يرعى الحرية ويقيم العدل
ويستفيد مما ابدعه الانسان وتبت صلاحيته وما النمودج التركى او الماليزى الا مثال يمكن الاقتداء به
الكلام كثير سيدتى والاختصار قد لا يفيد فى بسط ما اراه فى تعليق
ولكننى احاول بتوالى التدوين ان اوضح ما اراه صائبا

لك تقديرى

sal said...

فتاة الصعيد

انا رحت الى الاعدادات وحاولت اصلاح الخط وتكبيره ارجو ان تكون الصورة افضل
شكرا

sal said...

اخى ماجد

"الدين عميق ولا يستحق ان يحبس في المساجد او الكنائس
"

انت كده بتكلم اختنا تييرز ومش بتكلمنى
؟؟؟

كلنا مسلمون يا ماجد وما تراه انت ربما خفى عنى ولكن بقبولنا وتسامحنا
مع كل مختلف هو الذى يؤسس لثقافة التنوع والسعة والاختلاف
والكلام حول المبادىء والقيم غالبا لا يحتاج الى خلاف ولكن انزال تلك القيم على الواقع هو ما نختلف فيه، فى الكيفية والوسائل

والدولة المدنية والقوانين العادلة وضمان حقوق الانسان وحريته وكرامته
تبدو لى انها ليست محل خلاف

لك تقديرى