Tuesday, September 15, 2009

ما أريكم إلا ما أرى




هكذا خطب فرعون في جماهيره(..ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) ونطاق الحديث عن قول فرعون موضوع الصراع ، ولا يخفى أن( القول ومضامينه ) كان ولا يزال آلية صراع حاضرة على الدوام بين الخير والشر، والحرية والاستبداد، وهذا الصراع يخترع آلياته الخاصة به ، ويتشكل بايحاءات المعتقد والأهداف والرؤى في إطار عوامل الزمان والمكان ومستويات ثقافة الانسان الخيرية والشريرة.
واللافت للنظر في القرآن الكريم أن عدد الآيات التي تتحدث عن موسى عليه السلام مع الطاغية فرعون رمز الاستبداد قد فاقت كل سير الأنبياء والمرسلين، وكأنها بهذا الكم الهائل تشير إلى مستويين أساسين؛ مستوى معرفي، ومستوى عملي، ففي المستوى الأول تشير الآيات إلى مبدأ الرمزية في القرآن؛ ففرعون يمثل الطغيان السياسي. والمستوى الثاني يؤكد على أن كبرى الصراعات الانسانية تدورفي فلك الحكم والسياسة وقضايا الحريات.
لذلك فقد تناول القرآن الكريم برمزيته المعرفية عرض أهم محاورالاستراتيجية الفرعونية في إدارة الصراع، لكي يعرف العاقل الحر هذه الاستراتيجية ويدخل إلى حلبة الصراع مع الطغاة وهو أهلا لها، ولا يتكي على العقلية الاعتذارية( وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا )!!
وإنطلاقا من قوله تعالى( وكذلك نفصل الآيات، ولتستبين سبيل المجرمين ) قدم القرآن الكريم عرضا شاملا لأهم معالم استراتيجية فرعون رمز الطغيان السياسي في كيفية إدارته للصراع الاجتماعي والسياسي في السيطرة على الوطن والمواطن، والذات والقيم والاشياء، ليحذر منها الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم!!
فأول هذه المعالم: الاعتماد على الكذب والتدجيل، وتجاهل الحقائق والحقوق، والتملص من الواجبات ( كداب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا..).
ثانيا:التعذيب، والقتل، والسحل، وانتهاك الأعراض هي اللغة الحقيقية في منطق فرعون، وهي نظريته الأسمى في التعاطي مع المخالفين له في الرأي. وقد يتحول الطاغية تكتكيا إلى بعض الاختيارات الفكرية لأحتواء مخالفيه، ولكن منطقه الاستراتيجي السحق والسحل والتهميش هو الثابت والمعتمد(..إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، ويذبحون أبناءكم ، ويستحيون نساءكم.. ).
ثالثا: من منطق الطغاة تمزيق النسيج الاجتماعي بضرب قيمه الاجتماعية، وتقسم المجتمع إلى شرق وغرب، وموالين ومعادين، وأغنياء وفقراء، ومتعلمين وجهلاء، ومن ثم تقسيم معارضيه إلى قوى متناحرة ومتنافرة، وتحويل أفكارهم إلى أفكار غثائية، وآلياتهم إلى أليات بالية. وفرعون بهذا المنطق يبث الفوضى ويثير دوافع الاحتراب بين طبقات المجتمع الممزق( إن فرعون علا في الارض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم.. ).
رابعا: يترتب على هذا المنطق؛ منطق تمزيق النسيج الاجتماعي قيما وفكرا إلى تشبع نفسية الطاغية بالفرعونية، والشعور بالسيطرة التامة، والملكية الكاملة للوطن والمواطنين، ومن ثم فهو صاحب الحق المطلق في التصرف فيما يملك بدون مساءلة ولا مراجعة( ونادى فرعون في قومه قال ياقوم أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي، أفلا تبصرون).
خامسا: وبهذه الملكية المطلقة ومطلق الملكية للوطن والمواطن يرى فرعون أنه صاحب الحق في صبغ الوطن والمواطنين بأفكاره ونظريته في كل قضية كبيرة أو صغيرة؛ سياسية أو اجتماعية، دينية أو دنيوية. وهو بذلك لا يستحى من أحد فكل الذوات والقيم والأشياء من ممتلكاته( قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ).
وبالتالي فإن هذا المنطق الفرعوني؛ منطق التملك الكامل للأشياء والقيم والذوات( بلغة الهندسة= الملك الحر) يؤدي إلى مزيد من الطغيان في جانب فرعون، ومزيد من الخضوع والخنوع في جانب المجتمع بكل أطيافه. ومن خلال هذه المعادلة أو المفارقة يتمادى فرعون بمنطق الملكية هذه إلى مصادرة حق الشعور والانتماء والاعتقاد الشخصي( قال فرعون وما رب العالمين؟...قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون، قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون. قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين )، وهذا المنطق يسبب عدة أفات مزمنة للمواطن وكينونته الانسانية، منها: سلب إرادته في إدارة الصراع، واقناعه بالإنسحاب وعدم المبالاة، وتنازله عن قيم المواطنة وحق المشاركة، والقبول بمبدأ التدجين والتبعية رهبة أو رغبة( فاستخف قومه فأطاعوه،إنهم كانوا قوما فاسقين )!!
ولا نستغرب أن القرآن قد أشار إلى أهم وسائل السيطرة التي اعتمد عليها فرعون حيث اعتمد على السحرة والسحر،والسحب من رصيد التدين لدى المجتمع في عملية التدجين السياسي وذلك من خلال السحرة بأنواعهم والسحر بألوانه( فجمع السحرة لميقات يوم معلوم...فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين، قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين )و( سحروا أعين الناس ). ولا يخفى دور السحرة والسحر في إضفاء الشرعية على الفعل والفكر الفرعوني.لذلك وجب على العاقل ذو الإرادة والعزيمة السياسية أن يحدد هؤلاء السحرة ويكشف سحرهم؛ فقد يكونوا رجال دين، أو متنفعين من الوضع الراهن، أو من جيوش المرتزقة التي تعيش على الهبات، أو الأكثرية الممزقة التي رضت بسياسة التمزيق إلى شيع. كل ذلك ينبغي معرفته ليسهل توجيه النقد في خط الصراع مع فرعون، ولكن بنبغي أن يكون موضوع النقد متوجه صوب الظاهرة وليس الاشخاص، القيمة وليس الذات. إن معرفة هذه الجيوش وفرزها وتمييزها في غاية الأهمية والحساسية على الصعيد الاستراتيجي، وربما تستوجب معرفة هذه الجيوش وعملية فرزها إلى توجيه نقد شامل لكل أطياف هذه الجيوش لتعود إلى كينونتها السوية، ومن ثم محاولة إدخالها إلى حلبة الصراع للمطالبة بحقوقها والإلتزام بواجباتها وفق قيم العدل والحريات والانسانية.
وأخيرا... لا يستقم لمن عقل القرآن الكريم في هذا الشهر الفضيل،أن يرضى لنفسه أن يكون من جملة سحرة فرعون وجيوشه الجرارة الذين استخفهم فأطاعوه !!


د عبدالحكيم الفيتورى

No comments: